الخميس، يوليو 22، 2010

ولدت الثورة من رحم المعاناه

ولدت الثورة من رحم المعاناه
من ضمن نوامس الكوكب الذي نعيش عليه، إستحالة حدوث حالة إنفجار دون تفاعل عوامل متنافرة تتصارع إلى أن تضيق عليها الحيز المكاني ولا مجال لتأجيل لحظة الإنفجار عند بلوغ الذروة الزمانية تحت أي مسوغ، وفي الغالب السلوك الإنفعالي للأفراد والجماعات لا تحدث عفو الخاطر، تتجمع كقطرات الماء الزلال ما إن توافرت مقوماتها لتكون سيلا جارفا تندلق في إتجاهاً واحداً رأسيا، وبالإمكان بمجهودات مسبقة التحكم في قوة تيارها وترويض إنسيابها أفقيا في مراحل معينة Down-stream بيد أن محاولة حبس الثورة الجماعية في ظل إستمرار تدفق قطرات الإنفعالات الفردية تنذر بطوفان عارم لا تبقي ولا تذر.

ذكرعالم السوسيولوجيا الألماني ماكس ويبر ‏Max Weber‏ في كتابه (نظرية ‏التنظيم الاجتماعي والاقتصادي) "أن الغرائز تسبب لحاملها المنازعات والمشكلات ‏والقلاقل التي تكدر راحته وصفوة حياته" وقد صدق، فغريزة إنسان دارفور السوية ما كان ولا ينغي لها أن تكون خاملة إيزاء معاناته المزمنة من تصرفات الحكومات المركزية لأكثر من ستة عقود عجاف، ولم يجد جيل الألفية من أبناء الإقليم البد من المواجهة والخروج عن قوالب نظم الحكم المنحازة ضدهم.

الذكاء الإنفعالي لأبناء دارفور كان على قدر التحدي عندما طفح الكيل و(شنقل) قادة الإنقاذ ريكة أنظمة الحكم المركزية، فقد تفاجأ العالم بأسره صبحة ذات جمعة عام 2003 بطوفان عارم إنحدر من علو جبل مره غرّق نظام الإنقاذ حتى أذنيه، كان ذلك قبل سبع سنوات، أما الآن فالنظام يتنفس بصعوبة بالغة تحت الماء، واللحظات النادرة التي يتمكن فيها من إخراج رأسه إلي السطح، يتفوه بعبارات غير مفهومه، ويزداد قلق المهتمين بأمره كلما توافرت مقومات (عِينة) بكسر العين، بسماء دارفور تنذر بهطول موجة ثورية جديدة كعِينة سوق المواسير التي لا تزال (ساريتاً تبقبق) لترفد تيارات الثورة وترفع مناسيب الطوفان.

ثورة دارفور ليست إستثناء من هذه القاعدة الكونية، وبالطبع الإقليم ليس إستثناءاً كمنطقة هامشية تتعرض للظلم والقهر، بيد أن عنفوان الثورة بها تتناسب تماماً مع حجم المظالم المقصودة والممنهجة تجاهها وتتماهى مع تاريخها الناصع في مناهضة الأنظمة القمعية، إستعمارية كانت أم طنية، ولو لا أن العسكر لا يقرؤن والسياسية عندهم (هردبيس) لما أضاعت قادة الإنقاذ فرص ترويض الثورة في مرحلة هدؤ إندفاعها أو ما يعرف بمرحلة الـ Downstream

رحم المعاناة الذي خرجت منها الثورة في دارفور يتحوي عناصر متنافرة تصارع بعضها البعض ... فرط أمني في غياب المؤسسات العدلية وتخاذل القوات النظامية، جشع جبائي في مقابل شح وإنعدام خدمي، إلغاء المشروعات التنموية على ندرتها في ظل نمو سكاني مضطرد، فاقد تربوي ومدراس ولائية بكاملها حصيلتها "لن ينحج أحد" في مواجهة إنسداد آفاق الإغتراب، تعليم عالي بشق الأنفس والقبيلة هي أقوى المؤهلات في سوق العمل، حرمان شراب السكر والعوض شراب المقلب، تدافع أبناء الإقليم عند الفزع ونكران لجهودهم عن الطمع.

دارفور لم تكن جمهورية أفلاطونية فاضلة قبل الثورة، بها الأخيار والأشرار، ولكن سحب الدولة لهيبتها قصداً جعل المواطن يأمن الذئب على غنمه ولا يأمن بني جلدته، ففي ظل الإهمال المتعمد من قبل الدولة لجهاز الشرطة تغلغت وسط أفرادها التخاذل ومات فيهم روح الأقدام وإقتقدوا قيمة التضحية، فقد تفوقت عليها إصابات النهب المسلح لوجستياً وإستخباراتياً، وبات الكثيرون على قناعة أن النظام مستأنس لما يدور ولا يوجد لديه أدنى شك أن الفوضى يخدم مخططاته ونواياه السيئة، سيما وانه لم يفعل شيئا على الإطلاق لإعادة الأمور الأمنية إلى نصابها.

صيحيح أن النظام الضريبي موحد في عموم السودان، والصيح أيضا أن هنالك حيف في الخدمات الموازية له، إلى أن صارت أخذ من دون عطاء، فالمواطن في دارفور يدفع تكاليف وقود سيارات الشرطة في حالات الفزع، ويتحمل معيشة المعلم ناهيك عن الرسوم المدرسية وقيمة الكتاب المدرسي، ولم يحصل من الشفخانة غير روشتة الدواء من التمرجي، والفقر يدوس على رقاب الغلابة والشرائحة الضعيفة في المجتمع بينما إيرادات الزكاة تسخر لتشيد أبراج إستثمارية ونزل لوجهاء النظام بالمليارات بالمركز شارع 61 العمارات.

لقد فضح نصيحة حمدي مخطط النظام وكشف نواياه السيئة، الأمر الذي أيقظ الكثيرون من سباتهم وأجج حنق الذين كانوا يحسنون الظن بالنظام، فحمدي قتل آمال الذين ظلوا يتوهمون لفته من نعماء المركز يوما ما نظير تضحياتهم وطول إنتظارهم وإصطبارهم على تطفيف قادة المركز... كانت فاجعة بحق، مشاركة في تحرير تراب الوطن بالأرواح الغالية والدماء الزكية، ومشاركة في بناء مؤسساته طوبة طوبة، وقرش بقرش، وبين ليلة وضحاها ينقلب معيار الأولوية التنموية الجدوى الإنتخابي ولا شئ سواه، إختزال مشين للوطنية، ونكنران فج للمواطنة تنم عن خسة دفينة، ولا أحد يبالي بما تفرزها مثل هذه المخططات الدنيئة من عصارات فوارة في جوانح الإنسان الثوري بالغريزة.

الإنسان الحر الأبي لا يستكين لجلاده، بل ينتفض مفضلا إزهاق روحه على إستمرار التنكيل والإزلال، فقد حمل مئات الآلاف من أبناء دارفور الأشاوس أرواحهم في أكفهم وألقوا بها في مهاوى الظلم والجبروت، منهم من لقى ربه راضيا مرضيا، ومنهم من يتقدم، وقد تابعنا فوران تظاهرة ممثلي قوى المجتمع المدني داخل قاعة المفاوضات بالدوحة، فقد أثبتوا أنهم متقدمون في ثوريتهم من الثوار انفسهم.

الضغط العالي على إنسان دارفور بغرض هرسه وإبقاءه بعيداً عن شواطئ الوعي، والمحاولات الفجة لإبقائه خارج مثلث حمدي محبوسا في مثلث الجهل الفقر والمرض، سيولد إنعتاق الإقليم لا محالة، ومن هذه اللحظة إن كان هنالك من يهمة أمر هذا الإقليم فليعمل بجدية على إبقائه على موقعة في الخارطة جاذباً.
اللهم أشهد أنني قد بلغت.
ibrahimbasham@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: