الخميس، نوفمبر 19، 2015

سوء إدارة ... دمّرت حضارة

سوء إدارة ... دمّرت حضارة 

تعتبر دولة بني سلجوق من أنجح دُول الخلافة الإسلامية واعظمها، قامت في الاساس على الكادر البشري المؤهل، والتنظيم الإداري الفعال، وفعالية مراقبة الأداء الحكومي، والوقوف بشدة ضد تدخل أصدقاء السلطان والمقربين في شئون الدولة منعاً لاضطراب إدارته، وتفعيل نظام التدوير الإداري لكبار رجالات الدولة مرة كل سنتين أو ثلاث ضماناً لعدم تلاعبهم في أعمالهم، لذا لا غرو أن دولة السلاجقة أول مؤسس للمدارس النظامية في بلاد الإسلام، كما ألغي السلطان السلجوقي (نظام الملك) التجسس على العقول الذي كان متفشيا قبل توليه السلطة التنفيذية في دولة الخلافة العباسية، وبنى عقيدة وطنية للجيش ليست من بينها العبث بالحياة المدنية وممارسة قهر العباد، وكان يختار لوظيفتي صاحب البريد وصاحب الخبر أناساً لا يرقى الشك إليهم لحساسية هذا العمل، ويتم تعيينهم من قِبل السلطان نفسه، لضمان تدفق شكاوى الرعية ومراقبة اداء الولاة، وبذلك تمكن من إعادة الهيبة والاحترام للخلافة العباسية.
ما يهمنا في هذا المقال، العامل الحاسم في انهيار دولة بني سلجوق رغم نجاح نظامها الإداري في بداياتها، ووضوح طرحها السياسي، فمع مرور الوقت، والانتصارات المتكررة للجيوش السلطانية، التي وسعت الدولة السلجوقية تحت الخلافة العباسية من بلاد الأرمن إلى بلاد الهند، تنامى مع هذا التمدد، نفوذ رؤساء الجند، ولما تولى ملكشاه أمور الدولة انفلت أمر العسكر، وبسطوا أيديهم في أموال الناس وحدث تدافع على السلطة، ولإرضاء هؤلاء والعشائر التي ينتمون إليها، وامتصاص تطلعهم إلى السلطة، لجأ سلاطين السلاجقة إلى نظام الإقطاع، والتي تحولت إلى دوليات متناثرة عجّلت نهاية الدولة السلجوقية.
نسوق هذا النموذج مع الفارق، لتمحيص التداعيات المحتملة للاستفتاء الإداري لدارفور والذي يعتزم نظام الإنقاذ إجرائه في شهر ابريل من العام المقبل. لا شك أن الكل بات مقتنعا أن نظام البشير "سيخج" الصناديق للحصول إلى الزبدة التي يريدها، أي أنه يبحث عن شرعية زائفة لقراره الخاطئ بتفتيت اقليم دارفور إلى خمس ولايات، بدلاً من اقليم موحد من مديريتين، اولا تزلفا لرضى كبرى عشائره، وثانياً لتفريق شملهم وتفتيت إرادتهم ثم ثالثاً اشباع شهية منسوبيه للسلطة والمال.
وطنياً بالرجوع إلى اتفاقية اديس ابابا (1972) فقد اقرت الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي المكون من ثلاث مديريات (محافظات) وهي بحر الغزال و الاستوائية و اعالي النيل، بالطبع الخبث الإنقاذي، فات على كياسة مفاوضي الدوحة، هذا ان احسنّ بهم الظن، فلو أن المفاوض الجنوبي قد وافق على إجراء استفاء على أن يكون الجنوب اقليما واحداً او ثمانية وعشرين ولاية كما قرر سلفا كير مؤخراً، لاختار كل قبيلة ولاية تخصها، مع التوضيح أن الاستفاء الوارد في اتفاقية اديس ابابا، كان يخص أية مناطق أخرى كانت جغرافياً وثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي، ومن الواضح كان المقصود بها منطقة ابيي.
ولولا نكوص السلطات المركزية باتفاق اديس ابابا، وتفتيت الاقليم الجنوبي، لِما اندلعت الحرب مرة اخرى عام 1983 ولِما أنفصل الجنوب، فمن المعروف  تاريخياً صدور قرار تقسيم الجنوب إلى ثلاثة اقاليم في يونيو / حزيران عام 1983 م وفي الشهر ذاته اُعلن عن تأسيس الجيش الشعبي لتحرير السودان وجناحه السياسي الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د. جون قرنق.
ولا يفوت على فطنة المراقب، أن هذا الاستفتاء ما هو إلا اجراء استباقي للمطالب المتنامية من ابناء الاقليم بالحكم الذاتي للانعتاق من استغلال المركز لمقدرات مواطنيه، رغم الشعار المرفوع انه استحقاق دستوري ورد ذكره في ما يسمى باتفاق الدوحة لسلام دارفور، ثم ثانياً، فقد استبق النظام هذا الاستفاء بخرق لإتفاق الدوحة ذات نفسه على هوانه، بإضافة ولايتان للإقليم هما وسط وشرق دارفور، وسط صمت مطبق من انتهازي الدوحة. وبما أن هذا الاتفاق ليس شيئا يعتد به لدى اهل الاقليم، وان الدستور الإنقاذي هو دستور شمولي أحادي، فان مصير هذا الاستفاء المرتقب لن يختلف في شرعيته، عن الشرعية المفقودة للنظام نفسه، والذي فشل في الحصول عليه منذ أكثر من ربع قرن.
ثم أن تصرف الجند في عهد ملكشاه، لهو مماثل لسلوك رؤساء مليشيات نظام الإنقاذ في يومنا هذا، فقد اباحت لهم السلطات المركزية الحصول على الغنائم دون ضوابط، من المواطنين العزل، لإشباع شهوة المال، وسكتت على ممارستها للاغتصاب لإسكات وطر الجنس. لذلك لإحساسهم الزائف انهم من سحق الثورة الشعبية بالمركز، وحجّمت المقاومة المسلحة في الهامش، وعندما حاولت السلطات، نزع شوكة احدي هذه المليشيات (موسى هلال)، استعصم بعشيرته، واستقوى بالسلاح المركزي، معلنا حواكير عشيرته مناطق مقفولة، خارجة عن السلطات الولائية، ولا يزال المركز يهادنه.
يخطئ نظام الإنقاذ إن ظن أن تفتيت مكونات الاقاليم الهامشية، سيمكنه من بسط سيطرته وتمديد عمر حكمه، فقد وعي اهالي هذه الأقاليم، وانكشفت مؤامرات السلطات المركزية، ونحن على يقين أن الناس في دارفور سيديرون ظهروهم لصناديق الاستفاء كما أدار الشعب السوداني ظهره لصناديق الانتخابات الأخيرة هذا العام. وكما اجج تفتيت الجنوب اندلاع الحرب مجددا، فمن المتوقع أن تزيد نتيجة الإستفتاء الإداري المرتقب لدارفور المعروف نتيجته سلفا، تزيد المقاومة المسلحة ضراوة، ذلك أن هنالك اجماع تام لكافة القيادات الثورية على وحدة الاقليم إدارياً، سيما وأن هذا الأمر صفوي، وإن صوت الأهالي البسطاء، سيكون ذلك من دون دراية كافية بمآلاته السالبة، في ظل نظام شمولي تقمع الحريات، وتكفر بالشفافية.
للإطلاع على المقالات السابقة:


ليست هناك تعليقات: