الأربعاء، ديسمبر 26، 2012

فاروق أبو عيسى ... أبحث عن فزّاعة أخرى غير فصل دارفور


فاروق أبو عيسى ... أبحث عن فزّاعة أخرى غير فصل دارفور
 
لا يزال المشهد ماثلاً في أذهاننا، وقف السيد فاروق ابو عيسى بصفته أميناً عاماً للتجمع الوطني الديمقراطي، وقف مربعاً يديه أمام الرئيس المصري المخلوع حسنى مبارك، على أعقاب محاولة اغتيال الأخير بأديس أبابا، مخاطباً إياه بين الفينة والأخرى سيدي الرئيس، أن حكومة الإنقاذ فعلت بشعبنا الأفاعيل، ونحن نعرفهم هم من دبروا محاولة اغتيالك، سيدي الرئيس عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، وكلام من هذا القبيل، يثير غثياننا نحن الطلاب الذين آمنا بوعود السيد الصادق المهدي، أن الإنقلابات العسكرية سهلة والقضاء عليها أسهل، لذا كنا نرى كشعب "معلم وملهم" للثورات لسنا في حاجة لإنكسار السيد ابو عيسى المهين والذي شرط أعيننا كسودانيين أمام خلق الله، وما دراه أنه كان يؤذن في سوق نخاسة سياسية، "فسيده" الرئيس المخلوع كان يساوم في ثمن بيعه لجلاديه.

نظام البشير فصل الجنوب، وسيادته وتجمعه الهمام ظلوا يتفرجون على الجُرم من داخل قبة برلمانه الذي دخله ضمن صفقة البيع دون إباء، ويبدوا أنه يعتقد أن "كل المدردم ليمون" لذا فقد صّدق تخرصات الإنتباهيين محمل الجد بأنهم يخططون لفصل دارفور بذات السيناريو، ولشيء في نفسه عمد لجعله فزاعة لإستنهاض أبناء الإقليم ضد النظام، وكما وقف من قبل منكسراً بين يدي حسنى مبارك، كأننا نراه مع الفارق، يوليّ وجهه شطر تحالف كاودا، ويجأر قائلا: هيا هلموا وانقضوا على النظام قبل أن يفصل دارفور، فقد صرح حسب إفادة صحيفة حريات الغراء في الحادي والعشرون من ديسمبر الجاري "أنّ حكومة المشير عمر البشير، ستفتّت السودان وتؤدي لانفصال دارفور."

لماذا دارفور تحديداً، والمناطق الواقعة خارج نطاق مثلث حمدي واسعة، والحروب مشتعلة في معظم هوامش البلاد؟ وكيف توصل إلى هذه النتيجة التي خفيت على الآخرين؟ والإجابة تكمن في تعويله على ثوار دارفور المغاوير في القضاء على نظام المشير، وعليه أن يعي أن ثوار الهامش ما لبثوا يمنحون الفرصة له وتحالفه لتغيير النظام سلمياً ليتفرق دم الإنقاذ بالتساوي بين جميع مكونات الشعب السوداني، لأنهم إن اضطروا لأجتاح الخرطوم، فلن يكون ذلك في صالحه وزمرته عاجزي الفعل السياسي، ذلك أن نضالهم هذه المرة ضد الدولة السودانية المركزية وليس نظام المشير البشير فحسب، ببساطة أنهم يضحون لحسابهم الخاص من أجل إعادة الهيكلة على اسس عادلة.

ولكن ما قصدنا توضيحه للإنتباهيين والسيد ابو عيسى أجمعين أن هو صدّق إمكانية إستمرار عبثهم بمستقبل البلاد، يفصلون من يشاؤون ويبقون من يحبون، ما قصدناه، لفت الانتباه لمواقف تاريخية ظلت تعيد نفسها ويبدو أن الطرفين غافلان عنها.

يذكر التاريخ عندما أخلّ السلطان هاشم بن مسبع حاكم كردفان بالبروتكول المتوارث بينهم وأبناء عومتهم سلاطين الفور أيام السلطان تيراب إبن أحمد بكر، والذي ينص على ان يكتفي كلا الطرفين بسلطنته فلا يطمع في ملك الآخر، وكّل إبنه إسحق عنه في إدارة السلطنة، وخرج في جيش كثيف يرافقه وزراؤه وبقية ابنائه لرد إبن عمه إلى نصابه، وعندما علم به السلطان هاشم، فرّ والتجأ إلى ملك سنار، فلاحقة السلطان تيراب حتى وصل مشارف ام درمان، فقابله جيش العبدلاب من قبل ملك سنار قاصدين منعه من النزول إلى النيل، فأوقع بهم واقعة عنيفة، وسلب نحاسهم المسمى بالمنصورة وسرّ به سروراً عظيما، وطلاه بالذهب وعمل له نهوداً منه، وحفظه الخلف عن السلف إلى إن انقضى ملكهم وحمل إلى القاهرة ولا يزال موجوداً إلى يومنا هذا بإحدى المتاحف المصرية، وكانوا في كل سنة يجددون تجليده في إحتفال كبير يحضره عامة أهل دارفور وخاصتهم من جميع الأنحاء.1*
 
نزل السلطات تيراب بأم درمان، ولو لا عدم خبرة رجاله بركوب البحر، وأن المنية لم تمهله، ليس هنالك ما يحول بينه وبين بحر المالح حائل، فقد مرض وفي طريق عودته إلى دارفور، مات ببارا، فحُنط ودفن لاحقا بمقابر الملوك في طره بجل مره. خلفه أخوه السلطان عبد الرحمن الرشيد بعد رحيله، فعيّن مقدوماً على كردفان، وقد تواتر هؤلاء المقاديم إنابة عن سلاطين الفور، وكان آخرهم المقدوم مُسلّم من العبدلاب والذي لاحقة الدفتردار على اعقاب حادثة حرق إسماعيل باشا.1*

وعندما إستعاد السلطان على دينار سلطنة أجداده بعد معركة كرري، ما كانت هنالك قوة قادرة على منعه من فرض سيطرته على كامل حدود السلطنة شرقا إلى بحر النيل، لولا تمركز الجيوش البريطانية المحتشدة في مدينة النهود، وقد إنشات مطاراً حربياً هو الأول من نوعه في السودان لردع الطموح الدارفوري. وإن قدرت المشيئة الإلهية فوز ألمانيا في الحرب العالية الأولي، كان على الأرجح أن تحكم كافة مكونات السودان من فاشر السلطان.

والإمام المهدي لم يختار خليفته من رهيد البردي بالصدفة، كما لم يزحف على الخرطوم من الأبيض اعتباطا، لذا يرى مراقبون، أنّ حملة العميد محمد نور سعد، وكذلك عملية الذراع الطويل، تتسقان مع التسلسل التاريخي لقناعات إنسان دارفور الذي يؤمن ان حدوده بحر النيل، وفي مادة الجغرافية بالصف الرابع الابتدائي، قرأنا دارفور وكردفان يشكلان الإقليم الغربي للسودان، والخلاصة أن عبد الرحيم حمدي حين رسم مخطط فصل كردفان عن دارفور لضمه للمركز، كان غافلاً عن التاريخ، وأنهما توأم سيامي ومقدار نجاح عملية فصلها صفر. كما يذكر التاريخ الحديث أنه عند إنعقاد المؤتمر الأول للزعماء العرب، ذلك المؤتمر المؤسس لجامعة الدول العربية في مايو 1946 وقع الملك فاروق باسم ملك مصر والسودان ودارفور وكردفان، ومهر بقية الزعماء بأسمائهم على توقيعه.2*

وفي هذا السياق، كان رد د. جبريل إبراهيم خلال حوارنا له عام 2010 عن تساؤلنا عن سر ربط خطاب حركة العدل والمساواة السياسي قضية دارفور بكردفان، رغم المشاركة الرمزية لأبنائها في صفوفها، كان رده موفقا، فقد نفى الرمزية، ومتفهما للحتمية التاريخية و الاستراتيجية للإقليمين حين قال: "القارئ في التاريخ المشترك للإقليمين يرفض الفصل بينهما." على شقيقه الشهيد د. خليل إبراهيم محمد مؤسس الحركة شآبيب الرحمة والمغفرة في الذكرى الأولى لاستشهاده، والتاريخ لن يغفل له بعد نظره، وملاقاة ربه مدافعا عن الظلم الذي حرّمه المولي على نفسه ومنافحاً عن الحيف الذي ترفضه النفس السوية.

ولا نظن من يُولى ظهره لدارفور، باستطاعته أن يغلق باب قصره وينام هانئاً، كان ذلك غربا بحر النيل أم شرقه، إلا أن كان ساقطاً في التاريخ، كافراً بإمكانية تواصل الأجيال، يدسّ رأسه تحت غطاء الحقائق المزيفة، ويوهم نفسه أن القوة تظل أبديه له. وهنا تجدر الإشارة إلى ما نصح به المؤرخ البريطاني البروفسور آنولد تويني خلال زيارته لجامعة الخرطوم منتصف الستينات بدعوة من اتحاد طلابها، وقد تُرك له خيار تحديد ما يود تناوله، فكانت المفاجأة أن إختار دارفور موضوعا للمحاضرة ، وكانت الدهشة ما خلص إليه إن دارفور هي صُرة السودان ، وإن أراد السودانيون الحفاظ عليه ، عليهم الحرص على أمن وسلامة دارفور.

ونعود لأبي عيسى صاحب الصوت العالي في نظام مايو أثناء مذبحة الجزيرة أبا، والذي لم تبتل جوانحه بالطبع على مجازر دارفور وبقية اطراف البلاد وفصل الجنوب، لذا نستغرب قلقه المفاجئ على ممارسات نظام البشير المنفرة لقوى الهامش، والمقززة لأصحاب الضمائر الوطنية الحية، مثل هذا الرجل لم نتوقع منه موقف اصيل حتى أن حرق نظام البشير البلاد بأسره، وهو كغيره من رموز تحالفه ناهز الثمانين من عمره بحسب وكالة رويتر، وظلوا يمارسون السياسية لما يفوق الأربعة عقود وحصادهم الفشل الذريع، ولا يزالون يصرون علي عدم التواري وإتاحة الفرصة للآخرين، ظانين أن الأجيال لا تقرأ الماضي، وغير قادرة على إقرار عدم اهليتهم للمرحلة التي لا تخصهم، وأن ماضيهم غير مشرّف.

وتصريح السيد ابو عيسى المشار إليه، يعتبر لازم الفائدة، وهو دليل على نفاد جعبته السياسية من الكلام المفيد، وأنه وتحالفه حشاشون بذقونهم، ولنا أن نتساءل متى تظاهر بزيارة دارفور ومنعته السلطات الأمنية؟ ومتى خرج في مظاهرة جماهيرية في قلب الخرطوم ضد الإنتهاكات المتكررة لنظام البشير؟ وهل إن شدّ السيد ابو عيسى "حيله" هذه المرة، والتزم بما ورد في بيان ام درمان السياسي،  وخرج في موكب تتقدمه رموز تحالفه للشارع، هل ستخرج الجماهير معهم؟ نشك في ذلك ما لم تتجدد الوجوه، ويتغير الخطاب المكرور منذ عقود، وتتقلص التصريحات الفارغة ويتعاظم الفعل السياسي كما تفعل شعوب العالم المنتفضة.

ونطمئنه، والإنتباهيين كذلك، إن لأهل دارفور منهجهم في التعامل مع استفزازات مستجدي الحكم، فالحكيم لا يستفز، وليس في حساباتهم المطالبة بالإنفصال، وإن أرادوه، فهم اهل حكم وعزيمة يفرضون ما يريدون ولا يفرض عليهم، والتاريخ يشهد، وعليه أن يلعب غير هذه الفزّاعة، وإن تزحزح إيمانه بوحدوية دارفور، عليه اصطحاب شيخ الإنتباهيين في زيارة إلى بيت الخليفة، والإستعانة بمصلحة الآثار للعثور على بقايا سور السلطان تيراب على ضفاف بحر النيل قبالة القماير.

*تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان لمحمد عمر التونسي.

*دارفور  وجع في قلب العروبة لعصام عبد الفتاح
 


آفاق جديدة/لندن
_______________
رابط المقال على موقع صحيفة الراكوبة:
http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-28499.htm

ليست هناك تعليقات: