السبت، أغسطس 01، 2009

خسارة في صلح أفضل من كسب في محاكم

خسارة في صلح أفضل من كسب في محاكم

بلطف من المولي ، بدى قرار محكمة لاهاي الدولية بشأن أبيي متوازنا في مظهره الأولي ، وبرحمة منه ، تخطى طرفا النزاع الصدمة الأولى لإعلانه بسلام ، ذلك بفضل التهيئة الجيدة والترتيب الأمثل لتقلى الحدث ، ولكن ليست كل مرة تسلم الجرة ، وأبيي لن تكون آخر نزاعات شركاء متشاكسون في حكم البلاد ، لذا قبل أن نبرح هذه المحطة المهمة يجب على الجميع إستخلاص الدروس ، وإستلهام العبر من هذا الحدث الجلل ، سيما وأن البلاد تعاني من مخاص عسير لميلاد سودان جديد في مكوناته ومعايير الإنتمائي إليه ، وتأتي أهمية تقييم قرار محكمة لاهاي في هذه اللحظة بالذات لأن إضمار نية الإلتفات إليها مستقبلا قد يعيق المضي قدما بقدر من الثقة في النفس ، وسودنة حلول بقية مشكلاتنا المتعاظمة ، يكفي أننا سجلنا سابقة دولية يبرهن أن البلاد (راسو فات ، وهدايو مات)

التجارب الإنسانية أثبت أن الصلح هو المنهج الأفضل لفض نزاعات الجماعت والأفراد ، والكتب المنزلة أيدت هذه الآلية ، فقد ورد في القرآن الكريم أن الصلح خير ، وهذا أمر لا ريب فيه ، وأن المحاكم وإن قضت بحلول ملزمة قد لا تخلوا من آثار سلبية ، ترغم أحد أو طرفي النزاع على كظم الغيظ ، ومن الجائز أن ينفجر في أية لحظة تحت أية ذريعة.

من سلبيات قرار المحكمة ، أنها لم تحسم تبعية حقل هجيليج ، حددت أنها خارج حدود منطقة أبيي ، ولم تحدد إنتمائها لولاية الوحدة أم ولاية جنوب كردفان ، ومن الوارد أن هنالك قرى تابعة لأهلنا للمسيريه داخل ولاية الوحدة ، وقرى تابعة لأهلنا الدينكا نقوق داخل ولاية جنوب كردفان ، وهجيليج ليست منطقة عادية ، ومنها تنبع شريان الحياة للشمال والجنوب ، وقطع هذا الشريان والمطالبة بسداد المدفوعات بأثر رجعي صدمة لن تبتلعها الحركة الشعبية دون أن تحدث ضجه محرجة أمام منسوبيها ، مما يعني أن أُس المشكلة التي أحليت إلى لا هاي ، تم ترحيلها من الحدود القبلية إلى الحدود السياسية بين الشمال والجنوب ، المحكمة أعادت 75% من عموديات دينكا نقوق إلى ولاية بحر الغزال بما فيها مدنية ابيي نفسها ، أي أن الحركة الشعبية كسبت الأرض معنويا ، والآن تلقط الحجج لتثبت تبعية النفط لها ، رغم علمها أن المنطقة تابعة للشمال ساعة إعلان إستقلال السودان عام 1956م.

المؤتمر الوطني إن تراخت في تنفيذ ما صرح به الدرديري من لاهاي بأنهم سوف يوقفون دفع 50% من عائدات بترول هجيليج للحركة الشعبية إبتداءا من تاريخ صدور قرار محكمة لاهاي ، يعني أنهم غير متأكدين من سلامه مزاعمهم ، وأن أجلت البت في حسابات عادات البترول إلى حين ترسيم الحدود السياسية بين الشمال والجنوب ، يعني أن الطرفين محتاجين إلى لاهاي أخرى ، وإن أخذوا آكشن action فوري ، يعني أن حكومة الجنوب سوف تموت من الجوع في غضون أشهر قليلة ، والرئيس البشير قبل أن يستبين تبعية الحقل ، وعد زعماء المسيرية وعدا عرقوبيا بتعمير مناطقهم من عائدات بترول هجيليج عوضا عما فقدوه من أرض جراء هذا التحكيم.

السلبية الثانية لقرار محكمة لاهاي ، عدم حسمها حق التصويت في ابيي ، والحركة الشعبية رغم كسبها لأرض المنطقة ، إلا أنها تبدو مرتبكة بهذا الشأن ، السيد باقان اموم يصرح بحزم ، أن حق التصويت لدينكا نقوق فقط ، بينما د. رياك مشار يقول أن حق التصويت مكفول لتسع قبائل آخرون يسكنون المنطقة ، ولا إدري ماذا حوى بروتكول أبيي الملحق بإتفاق نيفاشا إن لم تفصل مثل هذه المسائل الجوهرية؟
ماذا تفيد الحركة الشعبية عودة عموديات الدينكا نقوق إلى ولاية بحر الغزال ، إذا كان الآخرون يحددون مصيرها بأغلبيتهم الميكانيكية؟ من الواضح أن الحركة الشعبية قد خسرت خسرانا مبينا ، وهي تحاول طمأنة منسوبيها بكلام (خارم بارم) ، خسرت البترول ، ومن الوارد جداً أن تخسر أبيي أيضا في إستفتاء 2011م ومن الجلي أنها خدعت نفسها بمسوغات أيلولة منطقة هجيليج إلى ولاية الوحدة عام 1978 ولو لا تأويلها على ذلك ، وركونها على التعاطف الدولي ، لما تنازلت عن سانحة قدمتها لها لجنة الخبراء على طبق من ذهب لحصولها على الأرض والبترول معا ، هذه الدقسه مكنت المؤتمر الوطني من تصحيح تدقسته المميته بتوقيع وفده على تروتكول ابيي بما حولته من نص صريح وقاطع تفيد أن قرار لجنة الخبراء يعتبر قرار نهائي ، وفي الحقيقة أن زهد الحركة أو عجزها في الحصول على البترول ظهرت منذ تنازلها عن وزارتها للمؤتمر الوطني ، والآن عليها البحث عن موارد أخرى تقتات منها ، بشرط ألا تكون إغاثة دولية ، لأن الإغاثة في الخرطوم أكثر من جوبا ، ومنذ 22 يوليو2009م لا أعتقد أن جنوبيا سوف يغادر الشمال طواعية إلى الجنوب ، مع ترجيح تحول موظفي الدولة إلى سخرة متطوعين لدى حكومة الدكتور رياك مشار ، وليس مستبعدا أن يعيد شماليو الحركة النظر في مواقفهم.

ماذا يستفيد أهلنا المسيرة من بترول لا يعرفون لونه ولم يذوقوا طعمه ؟ كان غاية مناهم أن تسرح مواشيهم على مراعي دون إن تجفل من الإدارات الأهلية ، وتمرح على أراض دون إن إضطرار منهم لحمل وثائق قرار محاكم دولية على ظهور الخيول أو متون الثيران ، فقد أحالتهم لاهاي إلى عابري سبيل ، وضيوف على المراعي فقط ، إن لم يتمكن المؤتمر الوطني من تثبيت حقهم في تقرير مصير المنطقة ... المستفيد الأوحد من قرار المحكمة ، حزب المؤتمر الوطني ، كسب البترول من منطلق الأرض لمن يعمرها ، وكسب أهلنا المسيرية بوعود طائرة على الهواء ، وفلحت في تأجيل المعركة الفاصلة لمدة عامين إثنين ، كما تمكن من مسك الحركة من مكان الوجع ( تسكت وتحني رأسك ولا أقطع منك البترول).

ولكن كسب المؤتمر الوطني لقرار لاهاي لا يعدو أن يكون مرحليا ، إن إستمر في محاولات فرض الوحدة على الحركة الشعبية ، إستنادا على إنتزاع حقول البترول عبر المحاكم ، وترجيح كسب الأرض إستفتاءا ، وتعقيد تقرير المصير تشريعا ، والضغط على رأس الحركة إبتزازا ، تحت هكذا Pressure من المرجح ألا تنتظر الحركة الإستفتاء ، ولم تدخل رأسها مرة اخرى في محك ترسيم الحدود ، بل تستعجل إعلان إنفصال الجنوب من داخل برلمانها ، وتضم إليها عموديات الدينكا نقوق التسع ، وتقول للجميع من يريد إن يستفتيناء في أراضينا فليلحقنا وراء النهر ، وقتها ، الرعي بمروج ابيي لن تكون ممتعا ، ويلزم على رعاة المسيرية الإتكاء على الكلانشنكوف والإستياك بالرصاص ووضع الوثيقة على الكمر ... إعلان الإنفصال قبل ترسم الحدود وديا والإستفتاء وفاقيا من المؤكد ستعطل ضخ النفط من حقل هجيليج ، وتطيير أبيي جنوبا ... لن يرجى من المؤتمر الوطني أن يستثمر هذا الكسب في عمل وطني قومي ، إذا تسلمنا أنه مختطف من الإنتباهيين العنصرين.

الصلح أخير ألف مرة من مغامرة غير مضمونة النتائج ، سيما إن كانت محكمة من جنس محكمة لاهاي ، نهائية القرارات ، قطعية الحثيثيات لا إستئناف فيها ، قبل بها الجميع مكرهين ، ولم تزيل النفار بين طرفي النزاع ، ولعلها قد قررت في شي ، وغابت عنها أشياء ، ومن الأفضل للجميع عقد صلح لتدارك رتق الثقوب المتبقية ، وعدم إستمراء المحاكم ، خاصة وأن محكمة لاهاي قد خدشت قدسية إتفاق نيفاشا ، في جزئية برتكول أببي ولم يعد هناك ما يمنع إعادة النظر في بعض فقراتها ، بحيث إن انفصل جنوبنا الحبيب ، يترك فرص أمل إعادة التوحد جاذبا ، ولم ننحرم من إبتسامة د.رياك مشار الصافية ، والمابئ الصلح ندمان.
ibrahimbasham@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: