السبت، يوليو 25، 2009

الحي أولى من الميت

الحي أولى من الميت

ترتيب الأولويات شئ مهم لأي نشاط إنسائي ، والتخطيط السليم مع السعي الدئوب يساعدان على بلوغ المرام ، والسبهلل العاجز عن تحديد المرسى الذي يقصده (ما فارقة معاه) من أين تأتي رياح التغيير ، الدعاش ملهم الركبان القادمة من الجنوب ، أم أم بيبي شراب الرهود القادمة من الشمال ، ولعل هؤلاء لا مكان لهم وسط مكونات المجتمع السوداني في الوقت الراهن ، فقد قضى عليهم رياح الإنقاذ العاتية ، والتي مانفكت تحاصر الجميع في خندقين ، ناس عايشة و ناس دايشة ، ولم يعد الإهتمام بالشأن السياسي ترفا حياتا بالنسبة للظاعنة في هودجها ناهيك عن الفاقد التربوي أو الخريج المتلهي بالدراسات العليا.

بيد أن نظام الإنقاذ ، وإن طالت سلامته ، يوما على آلة حدباء محمول ، ومن فرط سوء حالته ، وتدهور أوضاعه ، هنالك من أعد السترة ووضع برامج لمراسيم تشيع الجثمان ، وهناك من بدء في حصر التركة ، ومرافيت الصالح العام نفضوا غبار السنين عن البدل ، وإنتظموا في دورات إنعاش وظيفية ، وفيما يبدو أن الشفقة الزائدة ، قد أنست هؤلاء أن الأحياء لهم أولوية الرعاية من من هم في إعداد الموتى.

يعيش نظام الإنقاذ بالمحاليل الوريدية منذ توقيع إتفاق الـ CPA وكان الأجدر بالتنظيمات الوطنية الثاقبة الرؤى ، تركز جل جهدها للتوليف من الحركة الشعبية ، ومد حبال التواصل مع الحركات الثورية شرقا وغربا ، وهي المأمول منها ضخ أفكار ودماء متجددة في شرايين البلاد ، ولكن العكس من ذلك تماما فقد أهدرت هذه التنظيمات طاقات جبارة في مغازلة الكيان المحتضر للإحتفاظ بأقرب مسافة ممكنه منه ، ورغم علمه بسوء نواياهم فقد كان سعيدا بهذا التصرف ، لجهة إداركه أن هذه المخاتلة المكشوفة يصرفهم عن العمل المثمر.

لو أن هؤلاء كلفوا أنفسهم بعمل دراسة جدوى موضوعية ، للإقتراب من حزب المؤتمر الوطني من ناحية ، ودعم الحركة الشعبية ، ومساندة الحركات الثورية ، من ناحية أخرى ، بكل بساطة تمكنوا من التوصل إلى أن الناتج القومي من الأخيرة مضاعفة ، حيث أن التعامل بإخلاص مع الحركة الشعبية تشكل الضمانة الأساسية لصون وحدة تراب الوطن ، والتواصل مع الحركات الثورية بدارفور من المرحج أن تقيها من التشظي على أسس قبلية والتضامن معها من المؤكد ترغم النظام على إحلال السلام بالإقليم وإنهاء معاناة أهلها ، والمساهمة الفاعلة في ترسيخ مبدأ حاكمية القانون.

يضاف إلى ما سبق ، فإن وقوف التنظيمات السياسية مع الحركة الشعبية ، تمثل عنصرا لا غن عنه ، لإجبار المؤتمر الوطني على عدم الخروج عن روشتة الـ CPA المفضي للتداول السلمي للسلطة بالمواصفات ، ووفق الجدول الزمني المحدد ، ونصف المجهود الذي بذله التجمع الوطني مع النظام لإنقاذ في إتفاق القاهرة ، وقليل من العصف الذهني الذي أهدره حزب الأمة القومي في ورش فارغة ولقاءات عقيمة مع حزب المؤتمر الوطني من أجل توقيع وتنفيذ إتفاق التراضي الوطني ، كانت كافية لبناء الثقة وكسب ود الحركة الشعبية وثوار دارفور ، ومهد لعقد مؤتمر جوبا المرتقب قبل وقت مبكر ، وجني ثماره في الوقت المناسب.

أما الآن ، فحزب الأمة القومي يحتاج إلى معجزة تتنزل عليه من السماء ، للإحتفاظ بشعرة معاوية بين المسيرة والدينكا ، والتجمع الوطني يحتاج إلى جن مسخر لإزاحة صخرة الفراغ الدستوري من أبواب الحركة الشعبية ، لتتمكن من العبور إلى جوبا ، هذه الصخرة الكؤودة أظهرت المعارضة كأنها كيان هزلي يتتلمذ أبجديات العمل السياسي في آخر الزمن من الموريتانين ، وما كان لكل هذا أن يحدث لو لا سوء تقديرات التنظيمات الوطنية ، وإنشغالها برنين دراهم المؤتمر الوطني ، وإنخداعها ببهارج صولجانه ، ولكن يمكن التركيز فيما تبقى من وقت للتدارك هذا الخطأ الحسابي ، ومضاعفة الجهود لتصحيحه ، ولابد من التضحية بالرئاسة للحركة الشعبية ثمنا للوحدة وقربانا للعدالة الإجتماعية ، والمرحلة تقتضي إعلان نفره شاملة من أجل دارفور ، و تكريس كافة الجهود الوطنية لتطويق مكونات المجتمع الدارفوري ثوار ومدنيين في خندق موحد ، هذه الجهود وحدها كافية لإجبار المؤتمر الوطني على إبتلاع بقية وصفة الـ CPA كما هي.

التنظيمات السياسية التقليدية إن لم تتمعن في قراءة الوضع الراهن بواقعية ، وبذل الجهود المناسبة لتحديد أولوياتها ، وإبتكار آليات متجددة للتعامل معها ، فإن وضعها لا محالة ستصبح كمن يحسب البيض تقبل أن تفقص ، وعدم مقدرتها على الخروج من فلك تحالفاتها السابقة ، بلا شك سوف تقذف بها خارج نطاق الجاذبية السياسية ، السباق السياسي في الماضي كان متكافئ والتنافس مغلق لتنظيمات متقاربة في فئتها العمرية ، معظمهم أبناء دكة ودفعه واحدة ، حزب الأمة ، الحزب الأتحادي ، الحزب الشيوعي ، وأخاهم الأصغر الجبهة الإسلامية القومية ، أما المنافسة القادمة فيدخله تنظيمات متجددة في أطروحاتها ، ثورية في كادراتها ، الحركة الشعبية ، ثوار الغرب وثوار الشرق ، الأمر الذي يشير إلى أن التنافس سيكون مختلا ، سباق الشيوخ مع الشباب ، إن لم ينتبه مشاريخ التنظيمات العتيقة ، وكما يقول المثل (كل زول بزوله) حزب الأمة والمؤتمرالشعبي عليهم بثوار الغرب ، والإتحادي عليه بثوار الشرق ، الحركة الشعبية لا تحتاج لوصية على جبال النوبة والنيل الأزرق إن قرر تركهم رغب الحواصل بالشمال ، هذه الكيانات الحية أولى بالرعاية و الإهتمام من حزب المؤتمر الوطني المنتهية الصلاحية ، وعلى الجميع الإقتناع بإن وصفة الـ CPA ليست روشتة حياة للمؤتمر الوطني إن نفذت بالطريقة الصحيحة.

المدخل إلى دهاليز هذه الكيانات الحية ، يبدأ بالتأمين المبدئي على مطالبها العادلة ، ومشاركتها هَم إيجاد الحلول لمعاناة مواطني هذه المناطق ، وإثبان أن المواطن في مناطق الهامش ليس مجرد رقم إنتخابي ، أو قيمة مضافة في الكسب السياسي ، وطمئنتها بأن التنسيق السياسي فيها مصلحة لكافة الأطراف . المنعطفات الحادة التي تمر بها البلاد ، والتغيرات الفيوسلوجية التي طرأت على أجسام هذه الكيانات السياسية ، يضاف إلى ذلك حاجة التنظيمات التقليدية العريقة إلى تدارك هذه الرؤى الممتدة خارج آفاقها ، يحتم على الزعماء الوطنيين الإضلاع بأدوارهم لتشيد جسور التواصل مع رجالات المرحلة المقبلة ، وتجسير المساحة الفاصلة بين المركز الهامش ، وبالطبع لا يتأتى هذا فيما تبقى من زمن ، إلا بإعادة تريب الأولويات المرحلية ، وإتخاذ خطوات عملية بإتجاه الذين يطأون الجمر والقابضين على زناد قضايا أهليهم ، والرهان على هذه الكيانات الساسية الشابة ، كحلفاء إستراتيجين مضمون المكاسب لمن يحاسب.
brahimbasham@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: