الخميس، يناير 05، 2017

الجنقو في الميزان .. رؤية نقدية (2/1)

الجنقو في الميزان .. رؤية نقدية (2/1) 


ولما لم يتفق النقاد العرب على اسس معيارية للنقد الروائي، سنتناول رواية الجنقو مسامير الأرض للروائي الشهير عبدالعزيز بركة ساكن من منطلق انطباعي شخصي بحت كقارئ يتذوق الأدب، وكاتب مهتم بقضايا الهامش التي تتمحور حولها سرديات الرواية، وفليكن ميزاننا ميزان "قرع" قد يزيد او ينقص بضع اوقيات من الحجم والأبعاد الحقيقية لهذا العمل السردي المثير للأعجاب والجدل على حدٍ سواء، وبما أن الشيء بالشيء يُعرف، سنقارن عند اللزوم بينها ورواية (الخبز الحافي) للروائي المغربي محمد شكري، واوجه المقارنة هي أن كليهما تندرج تحت السرد السيّري بشكل او بآخر، وأن كلا الكاتبين نظر لمجتمع الهامش في بلده من القاع وكتب نصوص عارية كسرت "تابوهات" اجتماعية تحاشاها الكتاب في البلدين.
-       ذكر محمد شكري صراحة أنه شخصياً يمثل بطل روايته، وإن سرديات (الخبز الحافي) هو سرد لسيرته الذاتية، وقد كلفه هذا الاعتراف كثيرا، إلا ان عبد العزيز بركة ساكن حاول الفصل بين شخصيتي الكاتب والراوي، رغم ان الكثير من المعطيات تؤكد تطابق سيرته الذاتية مع سيرة الراوي، منها انه عاش في طفولته في مدنية القضارف، وان والده كان جندي سجون والتحاقه بمدرسة ديم النور الابتدائية، والدليل الدامغ على ان الراوي هو الكاتب ذات نفسه عندما سئل الراوي عن اسم امه من قِبل ود امونة في اول لقاء جمع بينهما قال مريم، بينما قال صديقه ان اسم امه زينب ابكر، ويتمثل الجانب التخيلي المغاير لسيرة الكاتب، بوضوح في زواج الراوي من ألم قشيّ، وهروبه إلى الحبشة بعد تمرده، وهنالك ادلة اخرى تثبت أن الراوي وصديقه سيان، سنتطرق لها لاحقا.
العنوان في: الجنقو مسامير الأرض
لا شك أن العنوان جاذب ومشوق، وذات دلالة رمزية، ذكر الكاتب بكل امانة انه "مقولة لمجهولين وليست من بنات افكاره، دعنا نفككه في محاولة للوقوف على مدلولات مفرداته ورمزية هذه المقولة
-       الجنقو: اسم موسمي لعمال زراعيين، تم تعميمه ليشمل شريحة مجتمعية تضم بالإضافة إلى العمال الزراعيين لمختلف المواسم، الفدّادِيات، بائعات الهوى، الفَكَيَة (الفُقرا)، منسوبو السجون (عساكر وعوائلهم) من دون سواهم من القوات النظامية، بعض الأفندية، هذه من الناحية الحرفية، أما من حيث الجهوية والإنثنية فهم خليط من الهامش العريض لمختلف الأعراق والأجناس يضم حسب الرواية: عرب وزُرقة واحباش. بطل الرواية (ود امونة) ليس جنقوجوراي بالمنعى الحرفي، لأنه لم يعمل بالزراعة قط، وكذلك البطلة ألم قشّي زوجة الراوي فيما بعد، وحتى الراوي نفسه عندما اصبح مزارعا صغيرا، واستأجر الجنقو في بعض أعماله، ظل جنقوجورايا ولم يرتق إلى برجوازي صغير أو جلابي، مما يؤكد أن الجنقو طبقة اجتماعية اكثر من كونه عمال زراعيين، وهنا يمكننا القول أن المقصود بالجنقو هم المهمشون او الهامشيون، سيما وقد أنضم رعاة حانقين لمتمردي الجنقو ضد البنك (رمز الثروة والسلطة) وبما ان الهامش اصبحت مفردة غير إيجابية بالنظر إليها من بعض الزوايا، فإن الجنقو يعتبر "يافطة" جاذبة وموفقة لعمل روائي تعتبر صرخة سبّاقة ومحاولة كشف وإدانة لواقع مجتمعي ينسحق فيه المهمشين تحت عجلات أخطبوط النظام الرأسمالي الذي لم يترك لهم البُد من التمرد.
-       مسامير: لا قيمة للمسمار في ذاته، ما لم يُدّق ويُثّبت بحرفية في الجسم او الكيان البنيوي، أي ان المسمار ليس اصيلا، وانما هامشي الوظيفة، يمكن الاستغناء او الاستعادة عنه بالمواد اللاصقة، أو بأدوات الربط أو باللحام، وكذلك الجنقو فقد احالتهم "الميكنة" الزراعية إلى عطالة، الأمر الذي اثار جنونهم، الجنقوجوراوي كالمسمار تماماً، أن نزعته من مكانه، غالباً لا يصلح للاستخدام في مكانٍ آخر، وغالباً ما يكون مستقرة مكب النفايات، وتدويره مكّلف، أما من حيث الرمز، فهناك (مسمار نص)، ويرمز للمركزية والذي بدونه يُشل الحِراك. وهذه الرمزية على الأرجح ما يقصده المؤلف ضمن مفردات هذا العنوان. وهناك (مسمار حجا) والمقصود به "الخازوق" الذي لا يمكن تجاوزه، وهو ايضا مدلول ايجابي في هذا العنوان. ومن صفات المسامير انتشارها وتوزيعها على الجسم البنيوي لضمان ثباته، وكذلك الجنقو، ينتشرون في الأرض لتظل راسيا ولا تميد بساكنيها، وهو المعنى الأرجح لهذه المقولة "الجنقو مسامير الأرض"، وهنا التشبه اقرب الي مسامير (النِقالة) التي مصيرها "الدَرِش" ومجابهة الأرض من اجل أن يظل الحذاء متماسكا، سيما وان كلمة مسامير جاءت كجمع وليس مفرد.
-       والمسامير من جنس المعادن التي تصنع منها، وإلا فشلت في مهمتها، فمنها ما تصدأ، ومنها غير ذلك من الفولاذ، رغم أن المهمة الاساسية للمسامير هي تثبيت مكونات الجسم البنيوي، ومنعها من التفكك والانهيار، وهي ما يطلع بها الجنقو في الأراضي المنتجة أو المجتمعات الزراعية، إلا أن هذا المهام ليس ازلياً او سرمديا. والمسمار من أي معدنٍ صنع، بالضرورة ان يكون حاداً، وحِدة الجنقو كمسامير للأرض اسء استخدامهم تمثل في تمردهم  ضد البنك الزراعي واحداث الخراب الاقتصادي وحرق المحاصيل الزراعية.
أما بعد الاطلاع على النص السردي، نرى أن العنوان الأنسب للرواية ما يفيد أن الجنقو معذبون في الأرض، وهامشيون وليسوا مهمّشون كما نبين من واقع الحوارات وافادات شخوص الرواية.
العنوان في: الخبز الحافي
-       افضل ترجمة لهذا العنوان، هي الترجمة الإنجليزية، والتي تقول (من اجل الخبز وحده)، أي من اجل الحفاظ على الحد الأدنى من مقومات الحياة، بدون رفاهية أو كماليات، لذلك نجد ان هذا العنوان تبريري بامتياز لكل ما اقدم عليها الروائي المهمّش محمد شكري الذي تعلم القراءة والكتابة في السجن ليصبح من اشهر الروائيين العرب، رغم ان هناك من شكك في هذا، تبرير لِما اغترفه من سرقة وسُكر وتعاطي المخدرات وممارسة الشذوذ الجنسي، وعقوق الوالدين وكافة انواع الموبقات الاجتماعية، وهو مختصر في كلمتين اثنتين من بنات افكار الراوي، فيه الرمزية التي ينم عن خيال واسع وابداع خصب ابتعد من خلاله عن المباشرة. وفي سياق المقارنة بين الروايتين، هنالك جائزة في المملكة المغربية تمسى جائزة محمد شكري للأدب الهامش.
مأساة بطل الجنقو
-       ورد في الرواية أن بطل الراوية (ود امونة) "دخل السجن في هذه المرة الأخيرة مع أمه منذ سنتين، أي أنه كان في السابعة من عمره وهو العام ذاته الذي التحق فيه أنداده من أطفال الجيران بالمدرسة." انتهى.
من هنا بدأت مأساته، فقد حرم من التعليم بجريرة والدته اولاً، وثانياً بإرسالها أي امه  بصورة متكررة للخدمة في بيوت ضابط السجون وجيرانهم، وتركه كفريسة شهية للذئاب البشرية من المساجين والسجينات. ".. أمك حتجي بعد كدا، المأمور كَرّهها الدنيا.. إنت عارف ملابسه وملابس أولاده وبناته، وحتى جيرانه. والله أنا شاكة في إنو قاعد يأخد عمولة من الناس في الغسيل.. أمك لو بقت مكنة غسيل حتنتهي..". انتهى. لا ندري إن كان هذا حال كافة السجون في البلاد، ام انها حالة خاصة بسجون الهامش، كيف لا تكفل الدولة حق التعليم لأمثال ود امونة؟ وكيف لا توفر لهم الحماية كأطفال ضد الاستغلال والاعتداء الجنسي؟ ".. خوفها الشديد عليه له ما يبرره، خوفها من الجميع دون فرز، مسجونات ومسجونين، سجانين وعمال سجن .. ". انتهي. أنه من الظلم أن توضع امرأة مرضعة أو حبلى شرعاً أو سفاحا في سجن عمومي، لذلك فقد كان تساؤل محمد شكري الطفولي في روايته (الخبز الحافي) عبقرياً ومنطقيا، فقد تساءل قائلا: "هل المرأة ايضا يمكن ان تدخل السجن؟"
ثم بأي حق وباي منطلق يستغل السجينات والمساجين كخدم في بيوت كبار الضباط؟ فإن كان عليهم أداء أعمال شاقة ضمن محكوميتهم، يجب أن يكون ذلك في المرافق العامة وللصالح العام، ولتدفع الدولة بدلات نقدية لخدمة كبار ضباط قواتها النظامية إن شاءت، اعتقد أن هذا السلوك المشين، متوارث من ربق الاستعمار، وينبغي أن يوقف تشريعيا.
من المتعارف فنياً، ان الروايات تطرح اسئلة، وليست معنية بالأجوبة، لذلك نعتقد أن الأديب بركة ساكن حسنا فعل بطرح مثل هذه الأسئلة الضرورية بشكل واضح في مستهل هذه الرواية الفذة.
ودة أمونة بطل رواية الجنقو مسامير الأرض، ضاع اجتماعياً بسبب أوّلي هو حرمانه من الأبوة (اب مجهول وام منحرفة) وبعامل ثانوي هو تنشئة السجون وبيوت الدعارة التي وجد نفسه فيها وهو في سن المراهقة، ومحمد شكري سقط إلى قاع المجتمع بسبب فظاظة والده وقساوته كسبب اوّلي، ثم الفقر والعوز كعامل ثانوي، ومن المفارقة، فقد افسد بيئة السجون ود امونة، بينما عتق السجون محمد شكري وأنتج منه روائي عبقري.
-       كلا الروايتان تتمحور حول الخمر والنساء، والتسكع والتلكع، وإن كان التسلكع والتلكع عند الراوي وصديقه اختياريا، فإن التشرد عند محمد شكري كان قدرياً، وبينما كان التخنث عند ود امونة يبدو قدرياً، كان ممارسة الشذوذ عند محمد شكري من اجل الخبز الحافي، والقاسم المشترك بينهما ان كليهما دفعت به ظروفه الفردية والاجتماعية إلى السقوط إلى سحيق قاع المجتمع.
-       الحبكة في الجنقو مسامير الأرض عنكبوتية الشكل، أما في الخبز الحافي فأحادية المسار، ونهاية كليمها جاءت مفتوحة وبالإمكان اضافة ملاحق لها، وإذا قدر للجنقو أن يعبر الحدود والأطر المهنية للمهمشين، فإن محمد شكري يمكن أن يكون احد ابطالها، وفي ذات الوقت ود امونة يمكن أن يقوم بدور بطولة مطلقة في نسخة اخرى للخبز الحافي.
اللغة في "الجنقو"
-       اللغة العامية في هذه الرواية اكثر سلاسة ومباشرة في توصيل المعنى من الفصحى، وهي أي العامية متسقة مع انحياز الكاتب للمهمشين وتتسق مع صراحة السرد، والذي لا يعرف المواربة وتغليف المعاني.
يوجد اخطاء إملائية طفيفة من شاكلة ".. كان الصول ما يذال هناك .. " تحت عنوان: وَدْ أَمْوُنَةَ السِجِنُ والسَجّانُ، والمقصود (ما يزال)، وكذلك ورد كلمة سمود ضمن عنوان (جهنم...جهنم عديل!) والقصود ثمود.
السياق الزمني "للجنقو"
-       تقول السجنية عازة للطفل ود أمونة: ".. حأطلع ليك شهادة تسنين، وحأدخلك المدرسة.. أنا بعرف مدير مرحلة الأساس، قاعد يجي بيتنا في القضارف.." انتهي. والصلاة الإجبارية في السجون، وتحذير السجّان الواعظ (جاك طويله) من عذاب من لم يطع الحاكم، هذه جميعا دلالات أن السياق الزمي لأحداث الرواية هو زمن الإنقاذ، وتاريخياً تم التحول من المرحلة الابتدائية إلى مرحلة الاساس عام 1995م، وإن كان في ذاك الوقت ود امونة عمره تسع سنوات، وإذا افترضنا أن الراوي قد شرع في تدوين هذا السرد مباشرة فور انتهاء مشاهده في ديسمبر2004 يكون ود امونه قد اصبح وزيراً اتحادياً قبل أن يبلغ سن الرشد (18 سنة) في على احسن الفروض، وهو امر غير مقنع، ويدل أن السياق الزمني لأحداث الرواية مكّثف إلي درجة الانفجار.
الحيز المكاني "للجنقو"
-       من خلال الحضور المكثف للسجون، استطاع الراوي أن يخلق ارضية مشتركة لمعظم شخوص الرواية، فهم اما مترددي سجون، او تربية سجون، او منسوبيه (ضوابط وجنود) وفيما يبدو ان هذا القطاع من القوات النظامية هو المتاح او المفضل للجنقو كشريحة اجتماعية (مهمشون، او هامشيون)
-       يلاحظ حضور حبشي مكّثف في الرواية، البطلة ألم قشيّ زوجة الراوي فيما بعد، الام ادي صاحبة بيت المتعة الرئيس، وجميع فتيات الليل، واشهر الجنقجوراويات الصافية، واغنى واشهر رجل أشار اليه الراوي (ابراهيت الفلاشاوي)، الخمور المستوردة، الأطعمة (رغنني، وجبة الديوك الحمر، الشطّة الدليخ)، الاغاني (لولي الحبشية)، "الزولة دي بتحبك، وإنت عارف حُب الحَبش" انتهي. هروب متمردي الجنقو والنازحين كذلك إلى الحبشة، وثورياً قول داليا: "الجنقو اتعلموا طبيعة الحبش.. ما بيخلوا حقهم بالساهل." انتهى.
هذا الحضور المكثف للحبشة والاحباش يجعل من هذا المجتمع غير مثالي لمجتمعات الجنقو في بقية اجزاء السودان، رغم تعمد الراوي عدم ذكر اسم الحِلة التي دارت فيها معظم احداث الرواية والتي كانت يوماً من الأيام تعتبر مركز الدنيا حسب توصيف الراوي، هذا التجاهل قد يفهم منه إمكانية تكرار المكان في اية بقعة اخري في شرق البلاد.
انفصام شخصية الراوي
-       ".. بالإضافة إلى أننا كنا نعمل في مؤسسة حكومية واحدة، طُردنا للصالح العام معاً، إلا أننا عشنا طفولة واحدة في قِشْلاقِ السجون بمدينة القضارف، ولو أنه كان يسكن في قِشْلاق الضباط حيث إن والده كان ضابطاً كبيراً ومديراً للسجن، ووالدي جندياً بالسجن، امتدت علاقتنا من المدرسة إلى الحي إلى البيت، ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كلانا كان كتاباً مفتوحاً مفضوحاً أمام الآخر، حيث إننا كُوِنّا نَفَسِيّاً ومعرفياً بصورة تكاد أن تكون متطابقة، قرأنا في مدرسة ديم النور الابتدائية، لعبنا خلف البَيطري وعلى تُخوم مقابر المدينة معاً، تشاجرنا مع أطفال دَلَسَا وسَلاَمَةْ البَيِهْ جنباً لجنب، سَبحنا في خُور مجاديف وبِرَكْ مَكِي الشَابِكْ، ولعبنا جيش جيش في وسط غابة الحسكنيت على سفح جبل مكي الشابك، قرأنا ذات الكتب واندهشنا معاً باكتشاف جُبران خليل جُبران، ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومهرجان المدرسة القديمة، ونحن نكبر تدريجياً عرفنا معاً نيتشه والنساء، ودقات ريشة ڤان جوخ، ثم حفظنا أشعار أمل دنقل، ناظم حكمت، محمد محيي الدين، المُومِس العمياء، ماريا وامبوي.." أنتهي. ويضيف: ".. ثم قرأت وإياه ذات الجامعة، ذات الكلية، ذات التخصص .." انتهى.
هذا التطابق في شخصيتيّ الراوي وصديقه مجهول الاسم، يدل بما لا يدع مجالاً للشك، أن صديق الراوي ما هو نسخة ثانية لشخصيته، يقول على لسانه ما لا يود ان يصّرح به شخصيا. ولكن هنالك تناقض بين الشخصيتان، ما يشير إلى احتمال معاناة الراوي والذي هو الكاتب ذات نفسه من بوادر "شزوفرينيا"، فنجده مرات يميل إلى دعم التمرد والعمل المسلح، واخرى تميل إلى النضال المدني، يؤكد في مواضع اُخر استهجانه للعمل المسلح، ومن الشواهد النصية:
-       ".. أذكر أنه كان يحس بالغبن الشديد تجاه البنك، ويعتبر البنك والحكومة نفسها يعملان على زيادة غنى التجار، وأنهم ضد الجنقو.. كلنا نفتكر ذلك ونعتقد في ذلك ولكن هل هذا يبرر الاعتداء على المواطنين وأخذ أموالهم وممتلكاتهم وتخويفهم، وما علاقة ذلك بالغبن تجاه البنك أو الحكومة؟ ومن يدري قد تقود بعض هذه الحوادث إلى زهق الأرواح؟!!" انتهي.
-       وشاهد التماهي مع التمرد هو استعجال الراوي على حصاد وترحيل محصوله، الأمر الذي يضعه تحت طائلة التستر والتآمر مع المخربين الذين احرقوا محاصيل البنك وكبار المزارعين والذي حدث بعد حصاده المتعجل مباشرةً، واظن لهذا السبب فرّ الراوي إلي اثيوبيا متزعماً رهط من الجنقو واصبح زعيماً لهم في معسكر اللجوء.
-       يصف الراوي صديقه الذي لا نراه إلا نسخة ثانية من نفسه بالتناقض حيث قال: " .. وأعرف أنه لا يعدو كونه برجوازياً صغيراً متخماً بالمتناقضات والادعاء والأحلام الكبيرة، يحاول أن يقضي عطالته وصالحه العام في مكان يقدم له الدهشة والانفعال، المتعة والإثارة متعة المشاهدة .. ". انتهي.
-       وقد اعترف الراوي صراحة أنه يعاني انفصام في شخصيته حيث قال: ".. وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مدعٍ آخر وهُمَا أَنا، هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيراً." انتهي.
القبلية في مجتمع "الجنقو"
-       يقول الراوي: ".. وشرحت لي أن تسعة وتسعين في المائة من سُكان الحِلة ليست لهم أجناس. ليست لهم قبائل، كلهم مُولدين، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس، وآباؤهم في الغالب إما غرابة: مساليت، بِلالة، زغاوة، فُور، فلاتة، تاما، أو حُمران وشكرية أو شلك ونوبة ونوير، وفي قِلة من الشَوايقة والجعليين، وكضاب الزول البقول عندو قبيلة هنا، ولا جنس ولا خشم بيت .." أنتهي.
ومع ذلك فإن معظم شخصيات الرواية ينتسبون إلى قبائلهم وليس إلى ابائهم، نجد حلوم الزغاوية، إسحق المَسلاتي، أداليا الدينكاوية، الود البرناوي، ابراهيم الشايقي، عزيزة الزغاوية، أبرهيت الفلاشاوي، مناهل النوباوية، خميسة النوباوية، ود أبكر البلالاوي، ود فور، ود مساليت
الجنقو مهمشون أم هامشيون؟
-       الفرق بين الصفتين، وجود الفاعل الحسيّ او المعنوي، ووجود الإرادة او استلابها، ومن واقع معرفتنا بالجنقو، فإن النص السردي، مطابق في غالبيته لواقعهم (سيري)، وموازي له في جوانب (فني تخيلي) ففي الجانب الأخير نجد ما يؤكد بانهم ليسوا مسلوبي الإدارة، فقد اتحدوا واجبروا الجلابة على رفع سعر حصاد السمسم، وتمكنوا من إعادة الاعتبار لزميلهم مختار علي الذي لم يراعِ الجلابي اسماعيل حقه الإنساني في الرعاية الطبية.
-       ورد ضمن النص السردي: ".. اشتعلت المشاريعُ جنقوجورا يحرثون وينثرون السمسم وينشدون في صبرٍ وألمٍ، يصنعون الحياة الحَقة للملايين بعرق مُرٍ، ويحرمون أنفسهم من لحظة الحلم التي لا يعونها هم أنفسهم، لا يفكرون كثيراً ولا عميقاً في الأشياء" انتهى.
هنا يبدع الراوي في الوصف النفسي للجنقو ويصفهم بالصبر والأم الحرمان وعدم الوعي وعدم التفكير بعمق في الأشياء. بينما نجد أن مختار علي قد هرم وهو بلا طموح غير آبه لأسرته في الغرب. وهو زعيم الجنقجور وكبيرهم، يعترف عن نفسه ونيابة عنهم ويقول: "أنا مصيري بس شجرة الموت يا ولدي. وأنا ما ندمان على شيء، والله عشت زي ما عايز. واستمتعت بحياتي في شبابي، وحتى الآن أنا بعمل وبجيب دخل، وأنا مقتنع أنه أي إنسان ضاق نُسْوَانْ البلد دي، وشرب مريستها تاني ما بيفارق عيشتها، وأنا لا خليت نساوين ولا مرايس.." انتهى. هذا التوصيف الوجداني مغاير لما اورده الراوي.
بهذا الاعتراف، يبرئ مختار علي الجنقو من التهميش المجتمعي الممهنج، ويقِّر ضمنياً بقوله (زي ما عايز) بانهم هامشيون باختبارهم المحض، وهذا الإقرار غيّر رأينا المسبق عن الرواية، بأن مشكلة الجنقو ذاتية وليست مجتمعية. يعزز هذا الاستنتاج قوله ايضا: "ولكن نحنا ما فينا فايدة، الواحد بيلقى العشرة والعشرين في زمن القرش الواحد عندو قيمة، ولكن الواحد مننا يشيل القروش وينكسر في كنابي المريسة في (الحُمرة) في فريق قرش،   دي حلوة، دي مُرّة، دي حامضة، دي فطيرة، دي خميرة، دي فتاة، ودي عزباء، دي شرموطة، ودي شريفة .. أكثر من أربعين سنة بالصورة دي .." انتهى
-       لم يبد الجنقو الندم على ضياع حياتهم بين الخمر والنساء، حسب افادة كبيرهم مختار علي الذي افاد انهم لم يكونوا فقراء او معدومي حيّل الثراء وامتلاك الارض التي هم فتوحها وعمروها لغيرهم (.. وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) الروم.
-       اما قول مختار على عن الجنقوراوي: ".. ولكن أولاد الحرام وبنات الحرام دائماً له بالمرصاد .. " انتهي. فأولاد الحرام هنا هم اصدقاء وصديقات السوء، وهم ليسوا شخصية اعتبارية يمكننا ان نحملها مسئولية تهميش الجنقو
-       اما بالنسبة للفاعل المتهم بممارس للتهميش، وهنا الحديث عن النص الموازي لواقع الجنقو، وإذا نظرنا للبنك الزارعين كرمز للثروة والسلطة، فإن اختصار سياسته التمويلية على إقراض كبار المزارعين يعتبر من منطلق موضوعي، لا يمكننا ان نفسره باستهداف للجنقو او تعمد تهميشهم، وهي متسقة مع توجهات النظام الرأسمالي المعنيّ والمنحاز لل Big business ومن الطبيعي ان ترفض أدارة البنك مقترح الرهن التعاوني المقدم من قبل وفد الجنقو كصيغة من صيغ النظام الاشتراكي وليس النظام الرأسمالي.
مدلولات الاسماء
-       كمال الدين: هذا الاسم الحقيقي لبطل الرواية ود أمونة، وهو شاذ جنسياً وقوّاد (بالتعبير البلدي)، يصفه الراوي بقوله: "مهمته الأساسية هي أن يجمع امرأةً برجل وأن يستمتعا"، كيف يمتهن شخص هذه الحرفة ويكون اسمه كمال الدين؟
-       آمنة أو امونة: عاهرة، بائعة خمر ومترددة سجون، انجبت ابنها ود امونة سفاحا. هذا الاسم غير مناسب من منطلق عقدي.
-       الصافية: اسم على غير مسمي، فبالإضافة إلى كونها غير سوية جنسياً، يقول عنها الراوي: "حسب وجهة نظري في الصافية ما يجذب رجل مدينة.. " انتهي. ويضيف " .. لها رائحة متميزة، عبارة عن صُنان." انتهي. ويستنج الراوي رأي ود امونة فيها بقوله : " .. ولم تعجبه فكرة أننا نكتفي بهذا الوحش" انتهى. كيف يطلق اسم الصافية على انسانة بهذه المواصفات؟
-       التركي: "أسمه بلال حسن التركي او تركاوي" انتهي. أي مدير البنك الزراعي، المقصود الرمزي من إلحاق تركي أو تركاوي باسمه، انه ليس ود بلد، ونظن انه لا ضير أن يكون مدير البنك كمهني محترف من خارج ابناء الحِلة او المنطقة.
-       عازة: مروجة بنقو ومترددة سجون، وهذا الاسم يرمز سياسياً وادبياً للوطن (عازة او عزة خليل فرح)
في تقديرنا أن اختيار الأسماء في الرواية غير موفق.

نواصل
//ابراهيم سليمان//

ليست هناك تعليقات: