الأربعاء، ديسمبر 23، 2015

لحِلة القديمة... عمل درامي هادف (رؤية نقدية)

الحِلة القديمة... عمل درامي هادف (رؤية نقدية)


مع الإنقاذ اللعين، وسياسته الرعناء التي رمت بخيرة أبناء البلد كرهاً وراء البحار، وهجّرت البقية الى معسكرات النزوح المهينة، وأعشاش الصفيح المذلة بجوار المدن، جراء وابل القنابل والمتفجرات المستمرة على هوامش البلاد، والاعتداءات المتكررة من المليشيات على المواطنين العزل، وتدمير كافة المشروعات الإنتاجية، وتركيز الخدمات الأساسية في المدن، مع هكذا وضع، اصبحت الحَلاّل القديمة سمة منتشرة في الريف السوداني، قرى كانت ملئ السمع والبصر، دخلت في حالة احتضار مطول، بيوت شبه منهارة، أو مشيدة على أنقاض حريق غادر، يسكنها العجزة، ومناطق "صَّانة" تحاصرها قهقهة الرياح ونعيق البوم، مناظرها كلوحات باهته لفنان كسول بقلم الرصاص.
الكاتب المسرحي والسيناريست قصي السمّاني، عالج هذه الوضعية في عمل فني رائع بعنوان "الحِلة القديمة"، اخرجه الشاب ابو بكر الشيخ في حكايات سودانية ــــ الموسم السادس، بطولة جمال عبد الرحمن وسامية عبدالله. يدور مجمل الحوار الدرامي فيما إذا كان من الممكن إعادة الحياة لهذه الحِلة المنسية، اعتماداً على "كاريزما" احد أبنائها المغتربين، وتفعيلاً لسلطته المعنوية، وتوظيفا لثروته الطائلة، حسب رأي العمدة حاج الصافي، أم ان الأمر أكبر من طاقة فرد، مهما أوتي من مال او ما وصل من مكانة، كما يرى ابن المنطقة المغترب النعيم؟
بعد ما جنى النعيم من المال ما يمكنه من بناء بيوت الحلة بيت بيت، ورصف شوارعها شارع شارع، ونال من الشهرة والصيت ما جعلت وسائل الإعلام رهن اشارته، خلص إلي أن حل مشكلته الشخصية، يكمن في التشبع برائحة تراب حلتهم، وعبق والدته التي رفضت المغادرة في إباء، وفضلت البقاء بجوار قبر زوجها.
يتجدد الأمل في عودة الروح للحلة القديمة، وفجأة تظهر ملابس زاهية "مشرورة" على حبال الغسيل في البيوت المنسية، وبدون مقدمات تظهر نسوة يحملن الحطب والقصب على رؤوسهن قادمات من الحقول، ومن غير العادة تتسكع معزات في ازقة الحلة، وتشتعل النيران بغتة في الهشيم تحت الصاجات ودُوك "العواسة"، وحاج البلة يضرب راحة يده اليسرى بناصيته، حينما تفاجئه طفلة بطلّة فرائحية تستفسر عن الملح وصابون الغسل، وحين تسال عن الحلاوة، يقول لها: "يا الله، ما حسبت حساب لدي! ... لكن الحلاوة بتجي، الحلاوة بتجي"، وينهض بهمة لفتح "الضالفة" الثانية لدكانه الذي ظل صامداً رغم رائحة الموت التي عمت الحلة لسنوات.
يخلص النعيم إلى أن الجلوس على "عنقريب" بدكان حاج بله، الذي كان يهرب إليه في باكر شبابه، كل ما افتعل مشكلة من افراد عائلته، هذا المكان الصامد هو الملاذ الآمن، وليس مكاناً اخرا بعد أن امتلأت جيوبه بالمال ونال  حظه من الشهرة محلياً ودولياً.
عودة النعيم المفاجئة، خلقت موضوع لناس الحِلة، يقول العمدة أنه أنزل نصف حمولته من مسئولية إعادة الحياة للحِلة، ووضعها على كتف النعيم، وأثناء هذه العملية، كان العمدة حاسماً وصارماً في نظرته ونبرة صوته، يشتكي النعيم لوالدته وحاج البله، ويقول لهما إن حاج الصافي ينتظر منه امل هو ليس قدره، شارحاً أن هذه المهمة مسئولية الجميع، إلا انه يلقى منهما السند المعنوي الذي يدفعه للمبادرة، يثمر بإقناع جميع أبناء الحلة الالتزام بالزيارات الراتبة للحلة، وعدم قفل البيوت. يعودوا فتعود الحياة للحِلة، ثم يغادروا فتغادر، لينحي ظهر حاج الصافي اكثر، ويقترب بصره من الأرض.
يقول العمدة بأسى للنعيم: "ناسي الكنت عمدة عليهم، مشو عمرّوا أراضي التانين، وبقو وافدين، وعمك الصافي طوّل من لمة الناس والكلام في ديوانه المهجور، لكن الأمانة الغلبت العمدة، جاء الراجل البشيلها وبقدر عليها". هذا "كلام كبار" من عمدة غيور على "اطيانه" ورجاله، الذين غادروا الحِلة مكرهين لا ابطال، ولسان حال حاج الصافي لا يلومهم بقدر ما يتحسر على ماضي حلته، ويعتب على الجهات التي افتعلت هذه الوضعية المزرية. يسأل النعيم ود سعد العمدة حاج الصافي: "كيف اقدر ارجع الحّلة زي زمان؟ ويرد عليه، ترجعها بي سلطتك، بي شهرتك، بي مالك وبي ناسك".
قلت لنفسي، عجيبة هذه الدنيا، بينما دولتنا السنيّة، تستقبل عشرات الآلاف من اللاجئين، وتغدق على الكثيرين منهم، ورغم استحقاق بعضهم للنجدة والكرم،  هنالك عدد مضاعف لهذا الرقم من الأسرة السودانية الأصيلة، أصبحوا وافدين، يعمرون ديار الناس في دول الجوار، يتطلعون للعودة إلى ديارهم، ويصدهم النظام، وبينما هنالك عشرات الآلاف من الأجانب، يمارسون الأعمال الحرة في السودان دون مضايقة، تكاد لا تخلو دولة في العالم من سوداني مشرد، ينتظر لحظة زوال مسببات هروبه بجلده من بلده، ليلتقط انفاسه ويعيد ادراجه!. بل الأنكى وامّر من ذلك، أن مواطنون أصلاء، قدّم أسلافهم انفس عزيزة كزاد في بناء هذا البلد، طردوا من أراضيهم الموثقة، شرد طرده، وسلمت لوافدين!
حوارات هذا العمل الفني، جادة ومركزة، واختيار الموسيقى التصويرية موفقة ومؤثرة للغاية، وكافة المشاهد ذات مغزى ومعنى صريح او ضمني، لكن ما يؤخذ عليه، حذف المخرج لمشهد العناق الطبيعي لابن طالت غربته إلي والدته الصابرة، فرغم تفهمنا لدوافع هذا التجاوز، إلا أنه لا يخلو من تطرف، اللهم إلا إذا كان احد ابطال الفيلم او كليهما  سلفي ونحن لا ندري، ويبدو للتمويه، حذف ابوبكر الشيخ مشهد عناق المغترب العائد لشقيقه فضيل ايضا.
والمشهد المقلوب من وجهة نظرنا، لهفة الكبار، وتعويلهم على النعيم، مقابل برود قاتل، وعدم مبالاة من قبل الشباب (شقيقه فضيل واستاذ اشرف)، اللهم إلا إذا كان المخرج يرمي من هذا الإقلاب التعبير عن خيبة أمل الشباب في اخوتهم المغتربين.
مشاهد الحيشان الواسعة، والأزيار تحت ظلال اشجار النيم المعمرة، والتركيز المطول على عروش وصرفان القصب، دليل على اختيار موفق للمكان (حِلة قديمة).
ولولة ام المغترب العائد، للتبشير بخبر عودة أبنها، وكذلك نداء العمدة وهرولته للتبليغ ( يا ناس، النعيم رجع، وبرجع الحِلة، يا ناس، النعيم رجع، وبرجع الحِلة)، هذان المشهدان، يؤكدان أن العمل المسرحي لا يزال أسير ادب الطيب صالح، عرس الزين تحديداً ( يا ناس الحِلة، الليلة الكتلة في بيت العمدة)، فالعمدة حسب مكانته الاجتماعية، بإمكانه دعوة ناس الحِلة على قلتهم في ديوانه، أو مخاطبتهم في المسجد بعد الصلاة لتبشيرهم بالوعد الافتراضي من النعيم، وكان بإمكان المخرج ان يكتفي بزغرودة ام المغترب، لتنكسر عليها الجارات لمعرفة سبب الفرحة، بدلاً من هذا التقليد المستهلك، أي اسلوب الزين في الاتصال الجماهيري.
ليس ثمة ما يدل على ان النعيم مغترب، المشهد التقليدي لشخص "مروِّق" راجع من "بلاد بره"، سيارة لوحتها افراج مؤقت، مشحونة شنط.
شاهدت عمل آخر بعنوان البحر والرمال فكرتها ليست بعيدة عن "الحِلة القديمة"، ملخصها شاب مغترب عاد للاستقرار بمنطقته، ينصحه والده المزارع بالاستثمار في الزراعة، يعتذر بأنه لا يفهم فيها، ويفضل السياحة، يعتمد هذا الفلم على المشاهد (كفتيريهات سياحية، جناين غناءه، منحوتات اثرية ...ألخ) لإقناع المشاهد أن البلاد جميلة ولا ينبغي مغادرتها، الحوارات ضعيفة وتبدو مرتجلة، وخلاصته غير مقنعة ، كما أن إختيار البطل غير موفق (الكندي الأمين) أذ أنه يبدو في الثلاثينات من عمره، ويقول معه قروش كتيييرة، هذا ادعاء غير واقعي، وفيها تغرير بالشباب، إذا ليس بالإمكان حصاد أموال طائلة بسرعة في الاغتراب، والعودة للبلاد للاستمتاع ببقية عمر الشباب. تبدو جهات سياحية وراء هذا العمل الفني "المكلفت".
استطاع شكسبير الابن النجيب لفكر وفن عصر النهضة الأوربية، استطاع هندسة وجدان الشعب الإنجليزي، والكثير من شعوب العالم خاصة دول الكومنويلث، وقد تجلت عبقريته الفنية في استيعاب كافة الأشكال الفنية التراثية والمعاصرة والشعبية وإعادة صياغتها استجابة لمتطلبات العصر، لا يمكن مقارنة الشهرة التي اكتسبها أي كاتب آخر بشهرة شكسبير عالمياً وعلى كافة المستويات، وهنا تمكن خطورة واهمية العمل الدرامي خاصة في المجتمعات التي لا تزال في طور الصياغة وإعادة التشكيل.
نحن على يقين أن الوضع الحالي في البلاد، خاصة في الريف السوداني، وضع استثنائي، ولابد أن يتبدل بزوال نظام الإنقاذ الكارثي، والذي نراه قريباً، لذا ننصح الجميع بعدم قطع التواصل بحلالهم القديمة، وقراهم المنسية، فمن نسى قديمه تاه.
من لا يتذكر رائحة حِلتهم القديمة، ولم يشتاق لمراتع صباه مهما كانت، عليه مراجعة نفسه، ولم ارَ من الشعراء من هو اصدق من ابي تمام في قوله: كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفه الفتى, وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ.
الارتباط بالأرض تعتبر ابجدية التربية الوطنية، وينبغي أن تضمّن في المناهج الدراسية ليتشرب بها عقول النشء في سن مبكره. ونحن على قناعة، إن التزم جميع أبناء الريف السوداني، في المهاجر، وأصحاب المناصب الرفيعة في الدولة، ورجال الأعمال، بتوطيد العلاقة الروحية بحلاّلهم القديمة، ليس مجرد زيارات عابرة، إنما بتقاسم الهم العام مع الأهالي، فإن ذلك سيغير الواقع ليس في الريف السوداني فحسب، بل سينقذ البلاد من الموت البطيء.
ebraheemsu@gmail.com
للإطلاع على المقالات السابقة:


ليست هناك تعليقات: