الأربعاء، ديسمبر 23، 2015

جيل التضحيات ... جيل شكَّار نفسه وأناني!

جيل التضحيات ... جيل شكَّار نفسه وأناني!

إذا اعتبرنا أن جيل البطولات، هو جيل الإستقلال، ابتداءً من البطل على عبد اللطيف ورفيقه البطل عبد الفضيل الماظ، مروراً بالسيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، انتهاءً بالسيدين إسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب، فإن الجيل الذي سمى نفسه جيل التضحيات، او الجيل الذهبي، هو جيل ما بعد الاستقلال، ذروة سنامه هم من صنع اكتوبر الغراء. نكنُ لهم جميعا كل الاحترام والتوقير الذيّن يفرضهما علينا تقاليدنا وأعرافنا المتوارثة ككبار لنا، لكن نتمنى أن يصغوا إلي رأينا في أدائهم السياسي كجيل، وان يستمعوا لتقييمنا لما ورثناه عنهم من قيم وطنية، وأخلاق سياسية، دون أن يصفونا بقلة الأدب أو يرمونا بالتطاول، نركز في هذا التقييم على ما يسمي نفسه جيل التضحيات، والذي ما فتئ ممسكاً بمقاليد الأمور، دون بريق أمل في إفساح المجال للأجيال التالية، رغم فشلهم الزريع في كافة الاصعدة تقريبا.
أعلى قمة هذا الجيل من حيث التأثير الفكري أو الثقافي أو الفاعلية في مجريات الأحداث الوطنية بدون ترتيب ودون حصر، نجد د. منصور خالد، د. الترابي، السيد الصادق المهدي، الراحل السيد الشريف الهندي، د. فاروق ابو عيسى، المرحوم ابو القاسم حاج حمد، فرانسيس دينق والراحل د. جون قرنق، المرحوم نقد والأستاذة فاطمة احمد إبراهيم، بشير محمد سعيد، د. على شمو، الرمز الراحل محمد وردي وابو اللمين، والفيتوري ومحمد المكي إبراهيم وصلاح أحمد إبراهيم الأديب الراحل الطيب صالح والفاضل سعيد ومكي سنادة، بالإضافة إلى الرؤساء الثلاثة، عبود والنميري والبشير.
فكرَّت في كتابة هذا المقال عدة مرات، وارجأته مراراً، إلى ان قرأت الحوار الأخير الذي اجرته الصحافية النابهة لينا يعقوب بصحيفة السوداني مع الدكتور المهيب منصور خالد، فقد اعترف الأخير بشكل صريح، وبكل شجاعة بفشلهم كجيل، وأعلن دون مكابرة تحملهم مسئولية ما آلت إليه البلاد من تردي حيث قال: "فنحن ننتمي إلى جيل مسؤول عن كل المآسي التي يعيش فيها السودان اليوم نتيجة أخطاء أو أحداث متراكمة، أهمها العجز عن نقد الذات، لا يوجد مجتمع يمكن أن يتطور إن لم ينقد الناس أنفسهم ونقد الذات مطلوب من المثقفين أكثر من غيرهم."
هذا الإقرار الشجاع، والذي لا يصدر إلا من عالم يحترم نفسه، ولما كان من شخص في قامة د. منصور خالد، حفّزني لإفراغ كافة الشحنات السالبة التي ظلت تدغدغ ذهني عن هذا الجيل، الذي ظل يصدّع رؤوسنا كل ما حلت ذكرى أكتوبر. ورغم تقديرنا لهؤلاء الكبار، فما نعرفه بالضرورة، ليس هنالك من يمتلك الحقيقة المطلقة، ذلك أن كافة التقديرات نسبية، فقد أجاز الشافعي فعل شيء، وقال ابوحنيفة لا يجوز.
في هذا المقال، لا نريد التركيز على الأحداث العظام، التي وقعت على أيدى هؤلاء ولا يزال، بقدر التركيز على المعاني، والقيم المرسلة لنا من جيل نراه لم يقدّر الريادة حق قدره، جيل توفرت له كافة مقومات النجاح، من تعليم جيد، خدمة مدنية راسخة، ممارسة ديمقراطية مبكرة، تنوع ثقافي ثر، وأراضي بكر، وموارد طبيعية واعدة، تكفل لهم على اقل تقدير، التواثق على دستور دائم للبلاد، تعبر عن هويتها، وتضمن وحدة تراب مكوناتها، وتكفل لمواطنيها السلام الاجتماعي، أضف إلى ذلك وضع عربة التنمية الشاملة على السكة الصحيحة.
بدلاً عن هذا، فقد اجتهدوا، ونجحوا في أن يتركوا لنا كتب التنظير الصفوي، والغناء الطروب، وحب الذات وإيثار النفس، وعدم الثبات على المبدأ، فالجيل الذي تغنى باسم الديمقراطية، لم يتعفف منهم ألا النذر القليل من الركوب في قطارات الأنظمة الشمولية، قدموا لنا دروساً في التناقض والبراغماتية في اشبع صورها، لا اذكر منهم إلا السيد الشريف حسين الهندي، الذي وافته المنية قابضاً على مثله، متسربلا بمبادئه في الحلم بالحكم الرشيد. فكّرت في الراحل الفيتوري، لكني وجدت ان القذافي الذي لاذ به، ايضا دكتاتور شمولي ونظامه فاسد.
كم عدد التنظيمات السياسية التي اسسها او تزعمها هذا الجيل، وتضيف كلمة "الديمقراطي" إلى اسمها، وهي ابعد ما تكون عنها؟ وكم عدد الأحزاب التي ترفع شعار الديمقراطية وتتشدق بها، وهي في حقيقتها عبارة عن حيازات عائلية؟ ومن هو رئيس الحزب من هذا الجيل، الذي سمح او ينوي السماح بالتداول السلمي للرئاسة في كيانه؟ تعلمنا منهم أن الزعيم، كشيخ الحِلة، يمنح نفسه الزعامة مدى الحياة، من هذا الجيل لم نرث تنظيماً سياسياً واحداً قائماً على اسس ديمقراطية سليمة، إذا تحفظنا على حزب المؤتمر السوداني بإعتبار أن مؤسسيه لا ينتمون لذلك الجيل. وكم عدد التنظيمات التي استوردها هذا الجيل اسماً ورسماً من دول الجوار، أو من محيطنا الإقليمي على طريقة الـ copy and past؟ والتي ما زالت تصر على التمسك بالأفكار المعلبة والمستوردة، رغم فسادها في بلاد المنشأ، هذا العناد، يعتبر من ابشع صور المكابرة لهذا الجيل.
هم يعلمون جيداً، أن فكرة الضمان الاجتماعي القائمة على تحديد سن للمعاش، وتحديد الدورات الرئاسية للدول والتنظيمات السياسية، لا تستند على منطق تضاؤل عطاء الذهن البشري في هذه السن، وإنما من منطلق ضرورة افساح المجال للآخرين لنيل حظهم في الحياة، لكن الزعماء من هذا الجيل، أغلقوا الطرقات في وجه الأجيال الصاعدة، وبذلك أعاقوا التطور الطبيعي في الحياة السياسية، دون خجل ودون مبالاة!
بدلاً عن الكتب الصفوية، والغناء الطروب، والأشعار الرصينة، ليتهم قدموا لنا القدوة في التجرد، ومعاني الوطنية، والانعتاق الثقافي، واورثونا اسس السلام الاجتماعي، و بدلاً عن الفجور في الخصومة السياسية، ليتهم قدموا لنا رموزاً في التسامح على الصغائر والتسامي فوق الخلافات الفكرية، عندما يرتفع انين الوطن.
وإذا تأملنا في حصيلة هذا الجيل، الذي بنى اُسس الخدمة المدنية لدول الخليج، لم نجد لهم شيئا ملموساً سوى تصدير الفكر السلفي غير المتسامح، ونشر الطريقة الوهابية التي حاصرت الطرق الصوفية وضيقت على الوسطية، وأفسحت المجال للتطرف الديني والتشدد المذهبي الذي يهدد السلام الاجتماعي الآن. رغم أن هذا التأثير السالب، ليس حصرياً على هذا الجيل، لكن كان بإمكان اوائل المغتربين، تنبيه الأجيال اللاحقة إلى خطورة هذا المذهب.
لو كان هذا الجيل ذهبياً بحق، لما صرف النظر عن منطلقات مؤتمر الخريجيين، ليدور في فلك الطائفية أو الشمولية. في تقديرنا، أن بدايات أُسيس الدولة المدينة الحديثة في السودان، توقفت هناك. ولو كانوا هم جيل التضحيات، لضحوا بانتماءاتهم الأثنية لتعزيز الوحدة الوطنية، فقد قرأت سجالاً لبروفسير شغل منصب دستوري رفيع أيام الديمقراطية الثالثة، وليس أيام ناس "ألحس كوعك" قال في مناكفة مع زميل له في ذات الفترة: "يا فلان، ارعى بقيدك، ترا أنا ود قبايل" أي الله، هذا بروف من هذا الجيل درّس لعدة سنوات في أعرق جامعات البلاد، ولأننا هنا نقيم أداء جيل، فإن هذا الشر يخصهم جميعاً.
جيل الاستقلال، أو جبل البطولات، ذكروا أن أجدادهم وصوهم على الوطن، وانهم حافظوا على ترابه الغالي، وأنهم صانوا الوصية، والتاريخ يشهد على ذلك، فقد عبَّر عنهم الشاعر موسى حسن عيسى في الأنشودة الوطنية الأشهر "جدودنا زمان وصونا على الوطن"، هذه الأغنية تعتبر إحراج مستمر لهذا الجيل، الذي لم يأبه لوصية الأجداد، ولم يكترث لقيمة تراب الوطن، فمنهم من قدّم القرابين السود، احتفاءً وفرحاً بتفتيته، ما تعلمناه من هؤلاء، أن الخروج للشارع من أجل إستعادة "الديمقراطية" واجبة، أما الحفاظ على وحدة البلاد، فلا ينبغي أن يحرك ساكناً!
من اعظم مآخذنا على هذا الجيل، الإصرار على فرض هوية قسرية على البلاد، ومحاولات الالتصاق عنوة بالعروبة، مع تجاهل تام لثقافات الجوار غرباً وشرقا وجنوباً، لا شك أن الجيل الحالي فخور بثقافته العربية والإسلامية، ولكن مصدر قلقنا هو التجاهل المتعمد من هذا الجبل للثقافات الأخرى، ومصدر اشفاقنا عليهم، هو التكلف البيّن ومحاولات إخفاء المكونات الأخرى للبلاد، كعربون لانتزاع اعتراف معنوي من الدول العربية. هذا الجيل، أي الجيل "الذهبي" لم يتوقف عن محاولات دفن او تغييب الثقافات الأخرى المكونة للسودان، وتجييرها لصالح العروبة، ورغم التكاليف الباهظة لهذه المحاولات اليائسة، نجدهم مصرون عليها.
هؤلاء وضعوا لنا أسقف صلدة، Glass ceiling في شتى المجالات، لم يخترقوها هم، ويحذروننا من الإقراب منها، المحجوب قمة في السياسة والأدب، وردي سقف في الغناء والطرب، الطيب صالح آخر مطاف في أدب الرواية، ... الخ. قد يقول قائل على الطريقة المصرية، ومن "حاشكم" عن تجاوز هذه الأسقف؟ وردنا أن هؤلاء لا يزالون ممسكين بالقلم الأحمر، وقد قتلوا فينا روح المغامرة، وبالتشبه بالرجال، ويضنون علينا حتى بمجرد المقارنة بمسيرة هؤلاء في بدايات مسيراتهم.
اعتراف الدكتور منصور خالد، نعتبره اعتراف من جيل التضحيات، بالمسئولية عن مآسي البلاد المتراكمة، وبما ان الاعتراف سيد الأدلة، ماذا هم فاعلون؟ هل نتوقع منهم التنادي على وقف هذه الأخطاء المستمرة إلى يومنا هذا؟ بأن يعتذروا أولاً لهذا الشعب، ويستقيلوا جميعاً عن العمل التنفيذي، ويتنحوا عن رئاسة التنظيمات السياسية التي تزعمونها منذ عدة عقود؟ وأن يحّرموا على أبناءهم ميراث الزعامة السياسية، وألا يعرقلوا محاولات الأجيال الصاعدة في إعادة وحدة تراب الوطن، أذ أن هذا الجيل يشمل شطري البلاد شمالا وجنوباً. وقبل ذلك أن يخرجوا جميعاً في مسيرة لوقف نزيف الدم الحرام، المراق على جنبات البلاد؟ بغير هذا يصبح إصرارهم على الخطأ، جريمة لا تغتفر في حق الوطن والأجيال الصاعدة، إذ كيف ننظر لجيل يسمي نفسه جيل التضحيات، والجيل الذهبي، يعترف بالخطأ، ويصر عليه، غير انه جيل شكّار نفسه وعدو شعبه!!
ebraheemsu@gmail.com
للإطلاع على المقالات السابقة:


ليست هناك تعليقات: