الخميس، نوفمبر 19، 2015

التجمع والإيقاد، الثورية والآلية ... أم الكلب "بعشوم"

التجمع والإيقاد، الثورية والآلية ... أم الكلب "بعشوم" 


ما اشبه اليوم بالبارحة، وما اعظم العبر وقلة الاعتبار، وكم هو مؤلم أن يلدغ مسلم من حجرٍ واحدٍ أكثر من مرة ولا يراجع إيمانه؟ وما فائدة تدوين الأحداث إن لا يقرأ الساسة التاريخ، وما فائدة القراءة مع العجز عن فهم ما وراء الأسطر؟ يذكر أن الإمام مالك افتى ببطلان طلاق الإكراه، والي المدنية النابه المستبد جعفر بن سليمان، فسر هذه الفتوى تفسيراً سياسيا وفهم مغزاه الأبعد والذي يبطل بيعة الإكراه، نُكل بإمام دار الهجرة، ولم ينجه من الفتك به إلاّ بوادر ثورة شعبية. يبدو أن قيادات معارضتنا المدنية والمسلحة، وما يعانونه من ضعف وقلة حيلة، يحاولون تكرار الإمساك "بقشة" "اللقاء التحضيري" للنجاة في بحر المؤامرات الدولية، رغم غرق مركبهم من قبل بسبب "طرور" الإيقاد المفخخ.
سيناريو التجمع الوطني مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، والذي تدخلت في نهايته منظمة الإيقاد، ومآلاته المأساوية، لا يزال ماثلاً في الأذهان، فقد رمت قيادات التجمع بكامل ثقلها على ثقل زعيم الحركة الراحل د. جون قرنق، ظانين أن بنادق قواته ستعيدهم إلى سدة الحكم، بيد أن الحركة في اللحظة الحاسمة، لم تنافح من أجل السماح لقيادات التجمع حتى بالمشاهدة الحية لمارثون المفاوضات مع المؤتمر الوطني، ناهيك عن المشاركة فيه. استفاد الراحل قرنق من منصة التجمع في إقناع الملايين بمشروع السودان الجديد، والذي ليست للطائفية مكانة فيه، هذه هي الرسالة التي أرادها جون قرنق من حصرية الحوار، ولم تستوعبها رموز التجمع، والرسالة الثانية التي ضلت سبيلها إلى عنوان مجهول، هي أن الإيقاد غير معني بالحل الشامل لقضايا السودان، وغير مكترث بالتحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، والدليل على هذا، أن النصوص الواردة في اتفاق نيفاشا، كانت مفصلة على مقاس الحركة الشعبية والنظام، بما في ذلك الدستور والفترة الانتقاليين.
لا نشك في إخلاص نوايا الراحل د. قرنق في بناء دولة المواطنة التي تعيد التوازن إلى حالة البلاد المختلة عرقيا وجهوياً ودينيا منذ تأسيسها، ولا نقدح في أهليته لتحقيق هذا الحلم، لكن بكل اسف كان شخصه الضامن الأوحد لتحقيقه، لذا اغتالته الأيدي الآثمة والمدركة لخطورة مثل هذه الدولة إقليمياً إن قدرت لها ان تولد. هذه الأيدي القذرة، هي ذاتها التي تمتد الآن تحت غطاء الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، ولكن بكل اسف لم تستطع العيون "المغبشة" بسبب الإرهاق السياسي المزمن أن تراها، ذات الأيدي ، وذات الشريك المتستر واللاوطني، يحيكون الآن حبكة جديدة، لإكمال المخطط الأكبر، الا وهو تفتيت السودان العملاق شعبا وارضا إلى دويلات عرقية قزمة.
رَفعت مقررات أسمره للقضايا المصيرية (15 الى 23 يونيو 1995) الموقع عليها من قبل التجمع والحركة الشعبية، رَفعت الحرج عن النظام في قبول حق تقرير المصير للجنوب، فقد كفلت هذه المقررات هذا الحق لأهل الجنوب، لذلك لم يجرؤ أحد من رموز التجمع علي الاعتراض أو التنبيه إلى خطورة هذا الإجراء، مما جعلهم شركاء بشكل أو بآخر في التفريط في وحدة البلاد.
عملياً، مات التجمع الوطني مع ميلاد اتفاق السلام الشامل 2005، بعد حوالي تسع سنوات وُلد كيان مشابه عُرف بقوى نداء السودان في الثالث من ديسمبر 2014 بين كل من قوى الإجماع الوطني (الابن الشرعي للتجمع)، الجبهة الثورية السودانية، و حزب الأمة القومي و مبادرة المجتمع المدني، اثنان من ابرز رموز التجمع، وهما الإمام الصادق المهدي، والأستاذ فاروق ابو عيسى تمكنا من تسلق أسوار الكيان الهجين الجديد (نداء السودان)، بنفس معدات السلامة البالية التي ظلا يحتفظا بها منذ أكثر من عقد. ومثلما كان للتجمع شق عسكري، متثمل في جيش الأمة، وقوات فتح وجيش التحالف بقيادة العميد عبد العزيز خالد، فإن الجبهة الثورية تمثل الشق العسكري لقوى نداء السودان، إذن يتضح لنا التشابه هنا بين الكيانين إلى حد التطابق.
يقول الفلاسفة من الغباء المميت أن تكرر ذات التجربة، بذات الخطوات وتنتظر نتائج مختلفة، فأين الاختلاف بين معادلة (التجمع + الحركة الشعبية وبينهما الإيقاد)، وبين ما نراه أمامنا الآن (قوى نداء السودان + الجبهة الثورية وبينهما الآلية الأفريقية) ، إذا اخذنا في الاعتبار المعطيات الآتية (1) أن الحركة الشعبية ظلت ترفع شعار الحل الشامل، بينما تحتفظ تحت ابطها بمسار المنطقتين، دون أن يستطيع احد أن يقول لها "تلت التلاته كم"، و(2) ان معامل ضرب المعادلتين هو المؤتمر الوطني بشحمه ولحمه (3) إذا كان الإيقاد كلب، فإن الآلية الافريقية بعشوم.
السيناريو الذي لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة، أن الحركة الشعبية قطاع الشمال، تنوى إلحاق المنطقتين بدولة جنوب السودان، وهي ما انفكت تحاول ذر الرماد في العيون، وأن الآلية الأفريقية تبارك هذا المسعى، والمؤتمر الوطني لا يبالي، وأن حركات دارفور تبدو مغيبة الوعي بسبب إعجابها المبالغ بتحركات الشعبية البهلوانية، ومستغّلة على المكشوف، وأن دولة جنوب السودان وجارتها وحليفتها يوغندا يوما من الأيام لديهما أفضال علي بعض قيادات الثورة الدارفورية، سيما وأن خياراتهم الارتكازية في الوقت الراهن شبه معدومة.
كان العشم الكبير أن تتوحد جهود قوى الهامش، من أجل إرغام المركز ومرجعياته الإثنية على فك احتكار السلطة، والاستئثار بالثروة ، وإجبار القيادات المركزية على التخلي عن الاستعلاء المنفِّر للوحدة الوطنية، والمحرِّض على الفتيت، لكننا نقولها بكل وضوح، حرصنا على الوحدة الوطنية مقدم على توحيد جهود قوى الهامش، إذا كانت للآخرين اجندة خاصة، ذلك لقناعتنا وإعزازنا أن دارفور محور اصيل من محاور الإرتكاز التي قامت عليها الدولة السودانية القديمة والحديثة. ولا نشك مطلقا أن ذات الشعور متجذر في وجدان إنسان جبال النوبة ومواطني النيل الأزرق، بيد أننا نرى أن هنالك من يعبثون بمصيرهم، ويمارسون الاستبداد انتصارا لطموحاتهم الخاصة، المرتهنة للايدلوجيا المقيتة.
نرى من السفه، تضييع الوقت من اجل إصلاح الجبهة الثورية، التي لم تبرح نقطة التأسيس، فقد انكشفت أجندات الحركة الشعبية، ولطخت استبداد قياداتها سمعة الجبهة الثورية، وحسب معرفتي بإنسان دارفور، لا يقبل أحد من رموزها استعلاء وازدراء الأمين العام للحركة الشعبية، والذي يحاول ابتزاز الجميع بخبرته السياسية الطويلة، وعلاقاته الدولية الممتدة، هذا السلوك لا يختلف عما تمارسه القيادات المركزية، لذا من الشجاعة بمكان إعلان فض سامر الجبهة الثورية، والشروع الفوري في تأسيس كيان ثوري للمقاومة الدارفورية الجادة.
لا معنى لعضوية الحركة الشعبية بنداء السودان، طالما أنها تفاوض النظام منفردة بشأن المنطقتين، هذا السلوك يماثل تماماً الاحتفاظ بعضويتها في التجمع حينما شرعت في محادثات نيفاشا، ولا معنى لعضويتها بالجبهة الثورية، طالما أنها تلتف على اهم مواثيقها وتزدري رموزها، ولا قيمة للحديث الذي يتشدق به الأمين العام للحركة عن الحل الشامل، طالما أنه يرى أن المنقطتين شأن خاص بهم، هذا يعني بكل بساطة، يا ثوار دارفور، ويا مطالبي الديمقراطية والتحول السلمي، انتظروا الحركة إلى حين الفراغ من ملفاتها الخاصة، ومن ثم تتوحد الجهود لبقية القضايا.
بقايا التجمع، وثوار دارفور، بنو الآمال العراض على نصوص ما سميت زوراً باتفاقية السلام الشامل، وكانت خيبة الجميع مدوية علي كافة الأصعدة، والآن يعيدون الكَرة، والسير في ظل ذات الحركة، والسبب الأساسي من هذا المسلك، هو أن الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، معنية فقط بالملفات العالقة من اتفاقيات نيفاشا، وتم إلحاق ملف دارفور حسب رغبة السيد أمبيكي من اجل التضخيم و"التكويش"، إذن ملف دارفور ما هي إلا تمامة "جرتق" بالنسبة للآلية، ومتى ما حصل اختراق في ملفات المنطقتين، سيعلق ملف دارفور، ونعيد سيناريو نيفاشا والفترة الانتقالية، وهكذا دواليك.
صدقوني مواقف الاستاذ عبد الواحد المتصلبة، ليست خاطئة مائة بالمائة، سيما وقد انفضحت معظم أوراق قيادات الحركة الشعبية، والحل الشامل شبه مستحيل إلا بتغيير النظام، ذلك أن مرجعية حلول قضايا المنطقتين منصوص عليها في إتفاقيات نيفاشا، بينما قضية دارفور لا تزال محتاجة لعمل ثوري جاد ومتجدد يجبر النظام والمجتمع الدولي على التفاوض الجدي. لذا لا معنى للذهاب إلى التفاوض على طاولة جانبية، طالما أن الميدان ساكن الوطيس، لأن الاوغاد سيفهمون المفاوض خفيض الرأس خطأً.
للإطلاع على المقالات السابقة:


ليست هناك تعليقات: