الأحد، مارس 31، 2013

ليس لدينا ما نخسره .. المهم ان تشك أوراق اللعبة بعناية


ليس لدينا ما نخسره .. المهم ان تشك أوراق اللعبة بعناية

في مقالنا السابق وحسب المعطيات حصرنا سيناريوهات التغيير المرتقب في تسوية سياسية او حسم عسكري وهنا نفند ما يعني أهل الهامش من العملية أيا كانت وسيلتها بحساب الربح والخسارة باعتبارهم ظلوا متفرجين "قسرا" علي سنتر الملعب السياسي لما يقارب الستة عقود عجاف من المصاطب الجانبية لملعب سيئة الإنارة.

أشرف المأمون يوماً على قصره فرأى رجلا يكتب بفحمة على حائطه ، فقال لخادمه :

اذهب إلى ذلك الرجل، فانظر ما كتب واتني به، فبادر الخادم إلى الرجل مسرعاً، وقبض عليه ، وقال له :

ماذا كتبت ؟ فإذا هو قد كتب هذا البيت :يا قصر جـُمـِّـع فيك الشؤم واللومُ ... متى يُعشـّـشُ في أركانك البومُ ثمّ قال له الخادم: أجب أمير المؤمنين ، فقال الرجل : سألتك بالله لا تذهب بي إليه ، فقال الخادم لا بدّ من ذلك ، ثمّ ذهب به إليه .

فلمـّـا مثل بين يدي أمير المؤمنين ، وأعلم بما كتب ، قال له المأمون : ويلك ! ما حملك على هذا ؟ فقال :يا أمير المؤمنين ، إنه لا يخفى عليك ما حــواه قصرُك هذا من خزائن الأموال ، والحليّ والحلل ، والطعـــام والشـّراب ، والفُرش والأواني ، والأمتعة والجواري ، والخدم ، وغير ذلك ممّـا يقصر عنه وصفي ، ويعجز عنه فهمي ، وإني قد مررتُ عليه الآن وأنا في غاية من الجوع والفاقة ، فوقفتُ مفكـّراً في أمري ، وقـــلتُ في نفسي : هذا القصرُ عامر عال ، وأنا جائع ، ولا فائدة لي فيه ، فلو كان خراباً ومررت به لم أعدم رُخامة

أو مسماراً أبيعه وأتـقوّتُ بثمنه، أما علـِمَ أميرُ المؤمنين رعاهُ الله قولَ الشاعر :

إذا لم يكن للمرء في دولة أمرئ... نصيب ولا حظـّ تمنى زوالـــــها

وما ذاك من بغض لها غير أنــّـه... يرجّي سواها فهو يهوى انتقالها

فقال المأمون : يا غلام ، أعطه ألف درهم . ثمّ قال: هي لك في كلّ سنة، ما دام قصرُنا عامر بأهله مسروراً بدولته.

وإذا كان الفقير الذي ثار ضد حيف امير المؤمنين المأمون على طريقته الخاصة، قد حُرم فقط من نعيم قصوره، فما بالك بمن اصطلى من نظام من عذاب ما لا يخطر على بال بشر، ومن حكومة بطشت زبانيته بطش جبارين ضد الأبرياء، الذين ظلوا مسحوقين يلتحفون السماء ويتوسدون الغبراء، لا يجدون ما يسدون بها جوعتهم، او يوارون بها سوءاتهم؟ قياسا على ما سبق فإن أهل الهامش ثوار ومدنيين مبرر لهم شرعا بالاّ يكتفوا بتمني زوال دولة الإنقاذ فحسب، بل أن يكافحوا لهدم دولة السودان القديم، وأن يضحوا من أجل ذلك بالنفس والنفيس.

أي تغيير من شأنه أن يكرّس توزيع أوراق اللعبة السياسية وفق المعايير السابقة مرفوضة جملة وتفصيلا، كان ذلك عبر تسوية سياسية أو حسم عسكري، نعني بذلك مركزية القرار السياسي، وفرض هوية ثقافية بعينها على كافة مكونات الدولة السودانية، والاستمرار في طمس ثقافات الآخرين، وتمركز البنى التحية وكافة وسائل الإنتاج في مناطق معينة، وقبل ذلك كله فك الاحتكار الحصري للقيادة السيادية والدستورية المتداولة بين النخب العاصمية.

الكيمياء السياسية لا تختلف عن الكيمياء المعملية، ولكي تروق الحياة السياسية، وتصفى الأوساط الاجتماعية في السودان، لا مفرّ من "الجوطة" المنضبطة، ولا نعتقد أن التحول السلس ممكن، وإن حدث فلن يغيّر الواقع المأزوم بصورة ترضي تطلعات اهل الهامش، ولضمان تحقيق التحول المنشود الضرورة تقتضي إبعاد رموز العهد البائد من المشهد السياسي، ولا مجال لمجاملة تكلف أجيال اخري مستقبلهم.

بالطبع محاكمات منتهكي أعراض المواطن، ومرتكبي الجرائم الجنائية بالضرورة أن تثير بلبلة يتحاشاها الطابور الخامس للنظام الحالي في أوساط المعارضة المدنية، ويعرقلها الذين قبضوا "حلاوة" النظام من تحت الطاولة، ويرتاب منها الذين تخندقوا وراء الجهويات والإثنيات، ويتصدى لها الذين ليسوا على استعداد "لجر الشوك" في جلودهم مهما كانت خطاياهم، لكل هذا نعتقد ان التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتم "بأخوي واخوك". قد يختفى نظام الإنقاذ بسلاسة من الحياة السياسية، أما التغيير الراديكالي لابد له من فترة ثورية إنتقالية، تشك اوراق اللعبة بعناية أمام أعين الجميع، ومن ثَم تشرف وتراقب الممارسة الديمقراطية في بيئة مناسبة ووفق شروط عادلة ومعطيات نزيهة.

ويجب ألاّ يغفل دعاة التغيير أن الكيان السوداني أصبح شديد التهتك، رهيف البنية، لا يحتمل العجلة في التغيير، وتحتاج لأيادي نطّاسة لإجراء جراحات التحول، وعقول صبورة لمتابعة مراحل النقاحة، أي على أهل الهامش ألاّ يفرطوا في التفاؤل ويغرقوا في أمل تحول ملموس بمجرد زوال النظام.

والتغيير الجذري على مراحل slowly but sure غير التفكيك السلس للنظام على ايدٍ غير أمنية تؤطر للالتفاف والعودة للجن القديم. وواهم من يظن أن عهد الانقلابات العسكرية في القارة السمراء جنوب الصحراء قد ولى من غير رجعة، ومخطئ من يظن أن جنرالات الإسلاميين ستعقل من خيبة تجربتهم المأساوية الماثلة الآن، وإن غفلت نواطير دعاة التغيير للحظة سيدمون أصابهم من الندم.

إن كان مغتصبي السطلة قد حكموا بين الناس بالعدل، لكان الذين يتمنون زوال سلطتهم، ويسعون لها، هم قوم حاسدون وطلاب سلطة، بيد انهم أثبتوا أنهم سفاكي دماء وفاسدون استغلوا آلة الدولة للتشفي ونفث الغل، ومن البديهي أن تكون أشلاء قصورهم المادية والأدبية افيد للبؤساء من عمارها وعلو أسوارها. لقد سوى ثوار ليبيا قصر باب العزيزية بالأرض في لمح البصر، لكي لا ينكأ شموخه جراحاتهم، وتم تغيير اسم الدولة وعلمها، وأزيلت كافة أدبيات جماهيرية القذافي من الحياة العامة، وإذا أجرينا مقارنة لنظامي البشير والقذافي، كلٍ ما له وما عليه، لوجدنا أن الأخير ملك، ولا نظن أن عملية التنظيف حدثت في ليبيا لأن التغيير تم بالحسم العسكري، بل كان ضرورياً لحياة جديدة للشعب الليبي.

في سبيل التغيير الشامل والجذري المنشود، ليس لأهل الهامش ما يخسرونه إن احترقت برلين او سقطت روما، وما يتراء للمراقب بناءاً على الممارسات العنصرية ووتيرة التمييز المتصاعدة ألا تتسع البلاد للجميع ما لم يتم بتر الإنتباهيين من جذروهم. دولة فاشلة انتهى بها الأمر إلى تصنيف الناس إلى اسياد بلد ورعايا، أولاد عرب وأولاد الذين، وتقسيم مكوناتها إلى أحزمة بألوان تماثل ألوان علمها، وتوزيعها إلى مثلثات ومربعات، ودوائر جهنمية، لا ينفعها الترقيع، ولا مفر لها من الهدم التام لبنيانه الذي بنوه على باطل، ومن ثَم التأسيس لدولة المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.

للإطلاع على المقالات السابقة:


//آفاق جديدة//

ليست هناك تعليقات: